كما هي عادة منتدى جريدة «الاتحاد» السنوي، كان اللقاء الافتراضي الذي نظم الأسبوع الماضي لكتاب الصحيفة غنياً بالأفكار والنقاشات الجادة، وقد تركز هذه السنة على موضوعات السلام والتعايش والتسامح التي هي من المعاني الثابتة في التجربة الإماراتية. 
في المحور الأخير من محاور المنتدى، جرى التعرض لموضوع الدين والتعايش السلمي في إطار النقاش المتجدد حول علاقة المقدس بالعنف، وهو موضوع شغل علماء الانتربولوجيا والاجتماع، واستأثر مؤخراً باهتمام سياسي وإعلامي واسع.
وليس من همنا هنا التعرض لهذه الإشكالية التي كنا تناولناها في كتابات وأبحاث سابقة، وإنما حسبنا الوقوف على جانب من الجدل المتعلق بالجذور الدينية لثقافة التشدد والكراهية والتعصب، ولقد أصاب الصديق رشيد الخيون في ورقته المقدَّمة للمنتدى عندما بين أن القيم الدينية قد توظَّف لتكريس التسامح والسلم، بقدر ما أنها قد توظف لنشر الغلو والتشدد والعنف كما هو شأن الجماعات الإرهابية الراديكالية التي تستخدم الدين ذريعةً للحرب العدوانية على المجتمعات والدول.
ما أود التنبيه إليه هنا هو أن ما يذهب إليه البعض من ربط هذه الثقافة العدوانية الراديكالية بالتراث العقدي والفقهي الوسيط ليس دقيقاً ولا صحيحاً، بل إن هذه الثقافة هي في الواقع من آثار النزعة الجديدة لأدلجة الدين وتسييسه باسم التجديد الزائف الذي يضيق الآفاق التأويلية الرحبة في التقليد الإسلامي. 
وغني عن البيان أن علم الكلام الذي هو المقابل الإسلامي للاهوت المسيحي لم يضع أي قانون للاعتقاد ومن هنا الفرق الجوهري بينه وعلم اللاهوت نفسه الذي يعرف بأنه المعرفة العقلية بجوهر «الألوهية»، وحتى الفلاسفة الذين استخدموا مقولة «الإلهيات»، مثل ابن سينا، إنما عنوا بها المبحث الانطولوجي المتعلق بالوجود وليس مضامين القول في الصفات الإلهية في ذاتها، وقد انتهى علماء الأشعرية المتأخرون، من الغزالي إلى الرازي، إلى أنه لا سبيل للوصول إلى حقيقة عينية في الأسماء والصفات، ولذا فإن الاعتقاد يتعلق بالدخول في رابطة الملة والجماعة لا بالنظر والاقتناع العقلي.
أما الفقه الذي هو المقابل للشرائع والنواميس المنظمة لسلوك الأفراد والجماعات، فالمدار فيه ليس التقنين المفصل والملزم لمعايير وأحوال الأفراد، بل هو أحكام تكليفية تعتريها سياقات الوضع من أسباب وشروط وموانع في ضوء مقاصد الشريعة وكلياتها وضروراتها، مع مراعاة الأعراف والعادات ومستجدات الأحوال، إن هذه المنظومة التأويلية الواسعة التي بلورها الأصوليون والفقهاء تمنع من اعتبار الشريعة مدونةً قانونيةً، بل هي قيم وضوابط وأنساق دلالية وتأويلية لا يمكن فصلها عن الواقع الذي هو حسب عبارة شيخ الأصوليين المعاصرين العلامة عبد الله بن بيه «أرضية تحقيق المناط وبيئة تنزيل الشريعة».
ومن هنا ندرك أن التقليد في مكونيه العقدي والفقهي لم يكن يوماً عائقاً أمام تكيف الأمة مع واقعها المستجد، بل إن صناعة الفقيه اتسمت دوماً بالتمسك الصوري بالأوامر التكليفية والمرونة الواقعية في تنزيلها على الواقع، إن هذا الانزياح بين دائرتي الأمر والفعل (أي التكليف والوضع ) مرده أن الأحكام ليست قوانين حرفية كلية، بل لا سبيل للفصل بين الحكم ومقاصده وموانعه التي تدخل في مقوماته الذاتية نفسها.
وهكذا ندرك كيف أدى نقل علم الكلام إلى قانون للاعتقاد لأخطر نزعات التكفير والكراهية، بحيث تحول الدين إلى أيديولوجية تضع خطاً صارماً للمفاصلة بين التصور الإيماني الصحيح الذي تترتب عليه الهوية الإسلامية وأنماط الاعتقاد الفاسدة الموسومة -دون تمحيص- بالعلمانية والجاهلية! وقد يعجب المرء أشد العجب من استيعاب كتب الملل والفرق الإسلامية لأغرب الأقوال وأكثرها شذوذاً في الاعتقاد دون تكفير أصحابها أو إباحة دمائهم.
كما أن تحويل المنظومة الفقهية إلى مدونة قانونية أدى إلى الانحراف نفسه، بتضييق دلالة الشريعة والحد من فسحتها التأويلية باسم التقنين التفصيلي الملزم الذي يلغي الهوامش غير المتناهية للاجتهاد والترجيح، كما هو بارز في كتب الخلاف والفقه المقارن، فمن الجلي أن المذاهب الفقهية لم تكن مدونات مغلقة، بل هي نتاج عمل تشريعي مستمر يساهم فيه فقهاء المذهب شرحاً وتعليقاً وترجيحاً ونقداً، ومن هنا يتضح لنا أن المقاربة القانونية للفقه الإسلامي، بدل أن تسمح بضبطه والتحكم فيه لصالح النظام العمومي تفضي إلى إفقاره وتضييق أفقه الدلالي المعياري، وهو المسلك إلى التشدد والانغلاق.
وحاصل الأمر أن التقليد ليس هو سبب ما يعانيه التدين اليوم من هيجان وتعصب، وليس هو الخلفية المرجعية لثقافة الكراهية والعنف السائدة اليوم في أوساط الجماعات التكفيرية المتشددة، بل إن الانحراف الأيديولوجي بمعاني الديني وشرائعه هو أصل الداء والعطب.

*أكاديمي موريتاني