ليست هي الأيام الفاصلة بيننا وبين تاريخ رحيله تجعلنا نستذكره. فهو دائم الحضور في الذاكرة. في الثاني من نوفمبر من عام 2004، غاب جسداً، وبقي يغذي حيوات أبناء الإمارات، وأفكارهم، وحتى أحلامهم، متمنين لو أنه كان بيننا ليشهد ما يتحقق من إنجازات، خاصة ونحن على أعتاب مرور خمسين عاماً على إعلانه قيام دولة الإمارات.
لا يمكن لأحد من أبناء الإمارات أن ينسى ما قام به، ولا أن يتجاوز أثر شخصه الحاضر دوماً في أرجاء دولتنا، وهو الذي مدَّ الجميع بما أنعمت الأرض على بلدنا من ثروات، وبلا منّة على الإطلاق.
إن التاريخ إذ سجل إنجازات زايد، فهو لم يسجل فقط البنيان والعمران الذي شهدته الإمارات في عهده، إنما قبل ذلك، يسجل الاستقرار الذي حققه، والإلهام الذي منحه، والرؤية التي جعلت الاتحاد يشب عن الطوق، والرسالة الإنسانية التي تركت أثرها داخل وخارج الإمارات، والنجاح الذي كان بمثابة حكاية نجاح لا تنتهي فصولها.
زايد لم يكن حاكماً وقائداً لدولة الإمارات فقط، إنما كان أباً حليماً لأهلها، وإنساناً وقلباً نبضَ بالمحبة، وعقلاً نضحَ حكمةً، وقوةً مصدرها احترام الذات والآخر، ويداً ممدودة للخير، وصلت إلى خارج حدود بلدنا، ومواقف داعمة للقضايا النبيلة والعادلة.
لم يتردد في إغاثة الشعوب ولا في نجدتها، وهو الذي تحلى بصفات المسلم الحق الذي آمن بالإنسانية الجامعة للبشر، وبما أنجزه على مدار عقود كسب محبة الناس من شتى بقاع الأرض، ولهذا عندما فُجعنا برحيله في الإمارات، فُجع كثيرون من حولنا دولٌ وشعوبٌ تعرف من هو زايد، وماذا قدّم للبشرية من أعمال جليلة.
زايد سبق الكثيرين في زمنه بما أعلاه من مبادئ عظيمة، وما أرساه من قيم نبيلة منذ ما قبل الاتحاد، وقد تمحورت تلك المبادئ والقيم حول الإنسان، مؤكداً ذلك من خلال قوله: (ليست البنايات الشاهقة أو النفط هو أعز ما نملك، بل الإنسان في دولتنا هو ثروتنا الحقيقية وهو الأعز بلا منازع).
راح زايد يكرس جهده وفكره في الإمارات، ويدعم كافة المشاريع التنموية بما يصب في مصلحة الإنسان، سواء أكانت تعنى بالتعليم، أم بالصحة، أم بإقامة مشاريع إسكانية واقتصادية تحقق الاستقرار لأبناء الإمارات، ومع التطور الكبير الذي شهدته الإمارات منذ سنوات الاتحاد الأولى عاش المواطن البسيط حياةً أدرك من خلالها الفارق الهائل بين ما قبل الاتحاد وما بعده.
وبحكم تجربتي الشخصية وقربي من الوالد زايد عرفت أنه رجل قلما يجود الزمان به، فهو حكيم في اتخاذ القرار، سخي في العطاء، شهم وسبّاق للخير. وقد شهدت بأم عيني وقائع تدلل على خصاله الرفيعة، وجميل صنائعه، وكيف كان مجلسه مفتوحاً للجميع، فيسمع مشاكل الناس ويحلها من دون النظر في الصعوبات، ليخرجوا والرضى يملأ قلوبهم.
الشيخ زايد نموذج فريد في السماحة والقوة في آن معاً. ومثلما وضع مصلحة أهالي الإمارات في المقدمة، كذلك وضع مصلحة الدولة بذات الموقع، وقد عرف كيف يرسخ مكانتها على خريطة العالم، وكل من عاصره شاهدٌ على ما أنجزه.
إن الوفاء لروح الشيخ زايد وتخليد ذكراه يتطلب منا نحن أبناء الإمارات أن نكون على قدر ما توافر لنا، فنحافظ على المنجزات، ونمضي على درب رسمها لنا، ونقتدي بأخلاقه، ونكون معطائين بلا منة، كما علينا أن نجتهد لنتقدم بدولتنا إلى الأمام أكثر.
ستة عشر عاماً مرت على غياب زايد، ولكن مهما يكن سيبقى الحي في قلوبنا، والمنارة التي أضاءت طريقنا. أما محبتنا له فلا تخفت، وهو القائد الذي سيبقى حاضراً بآثاره ومواقفه.