من الخطأ اختزال الانتخابات الأميركية التي جرت مؤخراً في صراع حزبي تقليدي بين التيارين الكبيرين اللذين يتقاسمان عادة الحياة السياسية الأميركية (الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري)، أو في صراع بين وجهين سياسيين ينتمي أحدهما للمؤسسة العريقة وثانيهما يأتي من خارجها، كما أن التركيز فيها على البعد الشخصي المتعلق بمسار وتجربة الرئيس المنتهية ولايته ترامب لا يفيد كبير شيء في فهم الواقع السياسي الأميركي.
لا جدل في أن النتيجة الحقيقية للاقتراع الأخير ليس فوز بايدن وهزيمة ترامب، بل استفحال الانقسام السياسي والاجتماعي في أميركا على أسس مستحكمة عميقة تتجاوز جذرياً الثنائية الأيديولوجية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
صحيح أن العديد من الدراسات نبّهت منذ سنوات إلى أن الحزبين يشهدان منذ نهاية الحرب الباردة تحولات متدرجة عميقة، حيث يتصاعد التيار اليساري الراديكالي في الحزب الديمقراطي بتوسع قاعدته في أوساط الأقليات العرقية وحركات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية، في حين يتصاعد التيار المحافظ والجماعات الدينية الإنجيلية في الحزب الجمهوري بتوسع قاعدته في الوسط الريفي الأبيض وفي المدن الصناعية التي عانت كثيراً من الآثار السيئة للعولمة الاقتصادية.
إلا أن ظاهرة ترامب التي هي الوجه الآخر لظاهرة نجاح الرئيس الأسود الليبرالي باراك أوباما عام 2008 تعبّر عن تحولات عميقة في الحقل السياسي الأميركي، تتجاوز الثوابت والتوازنات المألوفة في الديمقراطية الغربية الأولى.
التصنيف الغالب حالياً على الترامبية وما يوازيها في العديد من البلدان الأخرى (البرازيل وإيطاليا وبولندا وهنغاريا..) هو وصفها بالنزعات الشعبوية الجديدة، وهي التسمية التي تحمل في الغالب دلالة قدحية مستهجنة.
قد لا تعني هذه العبارة كبير معنى، فمفهوم الشعبوية يعني تقليدياً الاستناد إلى مرجعية الشعب، بصفته قوة عاطفية وروحاً منسجمة موحدة وفاعلة في مواجهة النخب الموسومة بالفساد والغرور والانفصام عن روح الأمة الحقيقي. ولهذه النزعة عدة صيغ سابقة، منها الحركات القومية الراديكالية التي عرفتها أوروبا ما بين الحربين، ومنها الأنظمة الثورية اليسارية في أميركا اللاتينية في نهاية القرن الماضي وأنظمة الحكم التسلطية العسكرية في أفريقيا.
إلا أن التيارات الحالية، وإن كانت تتفق مع النزعات الشعبوية السابقة في عدد من الخصائص، مثل الخطاب المناوئ للنخب السياسية المحترفة والتشبث القوي بسيادة الأمة والشعب، فإنها تتميز بكونها تترجم الإشكالات الجديدة للنظام الليبرالي الذي يشهد أزمات متتالية منذ عشرين سنة مضت.
وتبدو هذه الأزمات في مستوين أساسيين: الانفصام المتزايد بين حركية المجتمع وآليات ونظم التمثيل السياسي، بما يطرحه ذلك من إشكاليات تتعلق بمقتضيات الشرعية ومسار الإرادة المشتركة، وانحسار نظام تمايز وتوازن السلطات المؤسسية الذي هو خط التحصين النهائي للنسق الديمقراطي.
وبخصوص المستوى الأول، لا نحتاج إلى التنبيه إلى تراجع الوسائط التمثيلية المختلفة للمواطن في الحقل السياسي، وبصفة خاصة الأحزاب العريقة التي كانت تعكس سابقاً الخارطة الاجتماعية الطبقية، كما لا نحتاج إلى الإشارة إلى تراجع الوسائط الإعلامية التقليدية من صحافة مكتوبة وإعلام سمعي بصري، وقد كانت في السابق تؤدي دور حاضن وإطار النقاش العمومي الحر. كيف يمكن الحفاظ على فكرة التمثيل السياسي لألوان وأطياف التعددية الاجتماعية والفكرية، في غياب تشكيلات حزبية منظمة فاعلة ومؤثرة وإعلام إخباري ونقاشي حر وموجه للجدل العام المفتوح حول الخيارات المجتمعية والثقافية التي تتوقف عليها أوضاع الناس وخياراتهم؟
وبخصوص المستوى الثاني، لا مناص من الاعتراف بأن نظام الفصل بين السلطات الثلاث (التنفيذية والقضائية والتشريعية)، الذي هو الإبداع الأساسي للفكر الليبرالي الحديث والسمة المميزة للديمقراطيات الحديثة، قد انحسر بخطورةٍ نتيجةً لعاملين مترابطين: تراجع اعتبارات السيادة الفعلية نتيجة لتضخم دور المؤسسات والنظم الإقليمية والدولية في مسار القرارات الحاسمة في أكثر المجالات حيوية، مثل التنمية الاقتصادية وحقوق الإنسان والتعليم التربوي.. وتزايد دور الخبير والتقني في القرار التنفيذي على حساب المشرّع والقاضي، بما يحول الفعل السياسي إلى ممارسة صناعية فنية لا مجال فيها للنقاشات المجتمعية أو الجدل الفكري المعمق.
إن هذه التحولات الكبرى هي التي تفسر طبيعة المتغيرات الجوهرية التي عرفتها خلال السنوات الأخيرة المجتمعاتُ الليبرالية، ولم تكن الأنظمة الشعبوية شذوذاً أو خللا مرضياً في الحياة السياسية، بل هي التعبير الموضوعي عن الواقع الجديد للأنظمة الديمقراطية.
وحاصل الأمر أن الترامبية ليست حالة استثنائية أو حدثاً عارضاً في المجتمع الأميركي، بل هي تجسيد لتحول نوعي يمس جوهر التجربة الليبرالية الغربية في أهم ساحاتها الدولية.