صار أردوغان ينخرط في كل صراع يعتبره تأكيداً على «حضوره» الذي يراه مناسباً، من ليبيا، إلى العراق، فسوريا، فقبرص، واليونان، وأخيراً في ليبيا. فلمَ لا تأخذه المظان والمزاجات النرجسية؟
أخيراً، اقترح أردوغان أن تجري مفاوضات حول حل الدولتين في قبرص (اليونانية) وقبرص التركية، باعتبارهما دولتين لشعبين، مثلهما شعارات حل الدولتين بين الفلسطينيين وإسرائيل، ومن فيض عبقريته الملتبسة بالفوضوية، أفتى (وهو الخليفة المقبل لتركيا العثمانية الجديدة) أن قبرص شعبان، لا شعب واحد، على غرار ما يجري في فلسطين، وإسرائيل، عبقريته كيميائية لا يحظى بها سوى اللاعبين بالمخيلات المريضة.
إذاً، ها هو أردوغان يزرع أعلام تركيا في بلدان عدة، شاهرة «مجده التليد» وحدوده الجديدة! لكن، إذا كان أردوغان يمتطي حصان الغزو الخارجي، بأبهة الفاتحين، فكيف ينظر إليه شباب تركيا اليوم؟ أمنتشون بانتصاراته الدونكيشوتية، أم أن ما سيفعله، لا يصل إليهم، ولا يخترق ضمائرهم؟
بُثّ على الشاشات كليب حققه الجناح الشبابي في حزب «العدالة والتنمية» الذي شاهده نحو عشرة ملايين في ثلاثة أيام، على شاشة التلفزيون والوسائط الاجتماعية، بإيقاع حربي وطني طنان.
بدأ هذا الفيلم الدعائي بعنوان «من أنت؟» يطلب فيه من الشباب التركي أن يتماهوا بالأبطال التاريخيين، ويحثهم على ما يجعلهم «أتقياء» وقوميين منضوين تحت شعاراته.
ردود الفعل كانت كارثية، عبّر فيها الشباب باستخفاف وسخرية، على هذا المقطع الدعائي، فارتد سلباً على حزب السلطة. ومن خلال الاستطلاعات اعتبرت المرأة بأنها ضحية «العنف»، وأخرى تقول: «أنا حرة» وبعض الشبان يعلنون: «لا علاقة لنا بهذا النظام»...
أفشلَ الشباب بردودهم مضمون الفيلم، فأرغم «لجنة القصر» على قطع البث بعد أربعين دقيقة... لاحظت العالمة الاجتماعية «لادن يارنا غولر»، أن الشباب ليسوا أحاديين. وليس من السهل تأطيرهم... وفي استطلاعات أخرى أن الشباب الأقل من 30 عاماً هم «هدف استراتيجي للنظام» لأنهم يشكلون 50 بالمئة من السكان، أي أكثر من أربعين مليوناً. أما الشباب بين 18 و 24 عاماً فيبلغون 13 مليوناً، لم يعرفوا سوى أردوغان قائداً من رئيس وزراء، إلى رئيس دولة.
مشروع أردوغان هو إجراء عملية غسل أدمغة لهؤلاء، يقول: سنبني جيلَ شبابٍ تقياً، هل تنتظرونا أن نكوّن جيلاً من الملحدين؟ جيلاً من مدمني المخدرات؟ طموحه واضح: أن يتبنى الشباب «المحافظ والقومي» المشهد السياسي لتسريع القطيعة مع نظام كمال أتاتورك العلماني، وترسيخ سيطرة حزب أردوغان. رفضت نسبة كبيرة من الشباب هذه التصريحات.. الآن وبعد سنوات من الضغوط والشعبوية اللتين اعتمدهما النظام، «لصنع شباب محافظ»، خاضع، بلا إرادة، اتسعت الهوية بينهم وبينه، بل دفعت هؤلاء إلى مزيد من الاحتجاج والرفض... فهم يعانون البطالة، وعدم المساواة بين الحقوق. لكن، عدا ذلك، فإن مسألتهم الأولى هي الحرية وحقوق الأفراد، كما يقول السوسيولوجي حسن أوغوزخان. ويأساً يحاول أردوغان قمع هؤلاء بزج ألوف الطلاب في السجن... بل أكثر: تدفع أتوقراطية النظام الشباب إلى الهجرة، سعياً إلى أمل مفقود في بلادهم. وتدفع آخرين إلى اليأس والانعزال والانتحار... والعزوف عن المشاركة في الانتخابات.
إنها الهاوية، بين أردوغان وشبان تركيا، برغم من كل «انتصاراته» الوهمية في الخارج!