في نهاية كل عام هناك جردة حساب للأحداث الكبرى التي يتوقع أن تمتد تأثيراتها الزمنية والمكانية، وللأحداث الصغرى التي تؤثر تراكمياً. وفي هذا العام يمر عقد من الزمان على انطلاق ما عرف في حينه باضطرابات «الربيع العربي»، عقب «ثورة الياسمين» في تونس، حيث تبدو الصورة اليوم أوضح، ويمكن التأكيد على دور الأطراف الخارجية ذات المصلحة في ما جرى، بالاعتماد على الجهات الفاعلة من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وأفراد ناشطين لعبوا الدور الأكبر فيما آلت إليه الأمور اليوم من نتائج كارثية.
لكن البداية الحقيقية لما سُمي «الربيع العربي» كانت في يوغسلافيا؛ ففي الـ16 من ديسمبر عام 1998 تسرّبت وثيقة خاصة من وكالة المخابرات المركزية الأميركية تتحدث عن خطةٍ لدعم الديمقراطية في يوغوسلافيا السابقة، عبر تمويل المنظمات غير الحكومية، وفتح أبواب صربيا للمنظمات الغربية والأميركية المدعومة من الدول «المانحة»، بغية التغلغل عبر الشرائح الاجتماعية المختلفة لإضعاف الدولة وتقسيمها. وقد نجحت الخطة بالفعل في إسقاط الرئيس الصربي سلوبودان ميلوزفيتش عام 1998 وبرز اسم سدريا بوبوفيتش العراب الصربي للثورات الملونة في العالم. فبدعم أميركي وغربي تحولت بلغراد بعد الإطاحة بميلوزفيتش إلى مختبرٍ حقيقي لتجربة مناهج وطرق تنظيم الانتفاضات والثورات الشعبية، عن طريق مركز كانفاس، أو مركز الطرق السلمية وغير العنيفة والاستراتيجيات. وبفضل الدعم الأميركي، طور بوبوفيتش شبكته الصربية في بلغراد ليمتد نشاطها إلى خارج يوغسلافيا السابقة، حيث ابتكر أساليب وطرقاً للتعامل مع السلطة والمعارضة، ليتحول مركز كانفاس إلى مدرسة لرواد الانتفاضات والثورات الملونة في أوروبا الشرقية، ثم في العالم العربي، لذا تتشابه الشعارات والسيناريوهات وطرق مرجي الثورات لتحريك الجماهير وقلب أنظمة الحكم، في الحالتين. 
وهكذا بدأ «الربيع العربي» باقتناص الفرصة البوعزيزية، وتحرك خريجو المدرسة الصربية لتحريك الشعوب باستخدام الشعارات ووسائل الإعلام بحركة ظاهرها التلقائية بينما تحركها واقعياً أيدي خفية استثمرت وخططت ونفذت على نار هادئة، وعلى مدى سنوات ممتدة، لتنتهي أحلام الشعوب العربية بحروب أهلية ودول فاشلة لولا تدارك الدول الخليجية والجيش المصري لانتشال مصر من براثن الخريف العربي.
لم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر المحرك الحقيقي لما جرى، لكنها شكَّلت دافعاً قوياً للتحرك العلني لإدارة الرئيس بوش الابن بغية تغيير بعض الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط ودمقرطتها وفق الرؤية الأميركية، وبما يتناسب مع المصالح السياسية والأمنية لواشنطن. وبعد أن غزت الولايات المتحدة أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، أعلن بوش أجندة الحرية الأوسع للشرق الأوسط، ووضع برامج مثل مبادرة التجارة الحرة للشرق الأوسط، بهدف تعزيز الأسواق الحرة وتنمية المجتمع المدني، وأعلنت إدارته بأنها ستدعم كل الجهود الإصلاحية في المنطقة في إطار مبادرة الشرق الأوسط الجديد. ثم بدأت الولايات المتحدة في تأهيل نخب وتمويل منظمات مجتمع مدني، لكي تشارك في تغيير مجتمعات ودول المنطقة، وهذا ما استمر مع إدارة الرئيس باراك أوباما.
اليوم والعالم العربي يستعيد أحداث ونتائج تلك الحقبة، وبغض النظر عن التأثيرات الكارثية لجائحة كورونا، تبدو مؤشرات التنمية في العديد من الدول العربية أسوأ حالاً مما كانت عليه قبل عشر سنوات، وذلك على أكثر من صعيد. ورغم تأثيرات العوامل الداخلية، فإن التدخلات الخارجية والأجندات الموجهة كانت المحرك الأساسي لاحتجاجات سمّاها البعض «ربيعاً»، لكنها سرعان ما تحولت خريفاً على شعوب دوله.