عادة ما يظن الناس أن اللغة مجموعة من الألفاظ والتراكيب، تصح أو تشذ، تحسن أو تقبح.. وكأن اللفظ غاية في ذاته، وأن اللغة مجرد أصوات. وقد يقوّي ذلك علم اللسانيات الحديث بتحليل اللغة إلى مقاطع صوتية أو بنيات يتم تركيبها أو تفكيكها، لا فرق بين لغة ولغة. فالكل يخضع لقوانين علم اللغة العام والحديث بفروعه المختلفة: علم نفس اللغة، علم اجتماع اللغة، علم أنثروبولوجيا اللغة، علم تاريخ اللغة.. إلخ.
لقد أصبحت اللغة شكلاً بلا مضمون، لفظاً بلا معنى، صوتاً بلا إشارة إلى عالم خارجي أو وقائع مادية.. وكأن الإشارة مجرد شفرة من شخص إلى آخر لإيصال معان دون أن تشير إلى وقائع، وإن كانت توحي بحقائق. لقد أصبح الكلام يؤدي وظيفة ملء الفراغ بين الإنسان ونفسه أو بين الإنسان والآخرين؛ أي مجرد صراخ للتعبير عن النفس وإثبات الوجود الذي لا يلتفت إليه أحد، أو تخفيف للتوتر أثناء حدة الانفعالات في الفرح أو الحزن، والعالم الخارجي لا وجود له ومُسقط من الحساب.
ليست قضية اللغة قضية مصطلحات وكيفية نقلها من لغة إلى لغة أخرى عن طريق الترجمة، تحويل المعنى إلى لفظ أصيل أو تعريبه، أم النقل الصوتي للفظ؟ وينشأ التفاخر والتناحر بين الطريقين إلى حد السخرية من «شاطر ومشطور وبينهما طازج» لصالح «سندويتش»، أو من «الحاسوب» لصالح «كمبيوتر». ويتبارى علماء اللغة في اختيار هذا الطريق أو ذاك. وتتنافس المجامع اللغوية في تفضيل البعض النقاءَ اللغوي على العجمة، وأخرى في تفضيل الاستعمال على الأصالة اللغوية العتيقة. كما أن قضية الترجمة أو التعريب تجعل مهمة اللغة مجرد نقل حضارة وافدة إلى حضارة موروثة، تجعل الوافد هو الأصل، والموروث هو الفرع. المعنى من الخارج واللفظ من الداخل، الإبداع من الآخر والنقل للأنا.. فتلهث اللغة وراء المعاني الجديدة، وتتبع الحضارة الناقلة الحضارة المبدعة.
وتجتهد مجامع اللغة العربية في وضع القواميس والمعاجم حرصاً على نقاء اللغة، والتمييز الدقيق بين الألفاظ، واستخراج ألفاظ قديمة لاستعمالات جديدة أو قبول الألفاظ الجديدة الوافدة بعد أن تعربت بالاستعمال في هذا القرن. وهو توتر في كل معجم بين الأصيل والدخيل. ويتم تحديد معاني الألفاظ والكلمات، كل منها مستقل عن الآخر، في وحدات متفرقة، وجزيئات متجاورة. ويغيب السياق الذي قد يعطي اللفظ المفرد معناه. كما يغيب تطور معنى اللفظ في التاريخ وتغير استعماله من مجتمع إلى آخر. فندرت القواميس التاريخية للغة العربية، وعزت معاجم اللغة للاستعمال، وتباين معاني الألفاظ من قطر عربي إلى آخر.
واللفظ عرفي في أحد جوانبه، واللغة للاستعمال، وهي لغة الحياة اليومية التي يتم بها التفاهم والاتصال. والألفاظ لها حياة، أي «حياة الكلمات». واللغة بطبيعتها ضد التقنين والتعقيد والتنميط. فهذه عمليات منطقية خالصة يتم بها تجميع الجزئيات والمفردات في كليات وقوانين عامة. وما يندّ عن التقعيد يظل شاهداً وقاعدة بفرده، كما هو الحال في وضع الشواذ في اللغة. وما دام العربي البدوي الصحراوي قد نطق بها، فإنها تصبح قاعدةً على العربي الحضري المدني في البصرة أو بغداد قديماً أو في دمشق أو القاهرة حديثاً.. الخضوع لها. فالقاعدة استثناء، والاستثناء قاعدة. وهي قضية القياس في اللغة بين الإثبات والنفي. وهي أيضاً قضية القياس في الشرع بين الوجوب والاستحالة.
وبدأت ازدواجية اللغة بين الفصحى والعامية، وانشغلت المجامع بالدفاع عن الفصحى، وانبرى الزجالون للدفاع عن العامية. وتتسع الشقة بين العلماء والشعراء الشعبيين، بين الفقهاء والزجالين، كما تتسع المسافة بين لغة الكتابة والقراءة من ناحية، ولغة الحديث والتخاطب من ناحية أخرى. وبدأ اللحن في الفصحى عند الأساتذة والمثقفين، وفي خطب الرؤساء والساسة لأنهم يقرؤون نصاً لا يتحدثون به، وينطقون لغة لا يتكلمون بها. واستقرت الفصحى على البرامج الدينية والترتيلات الإذاعية المسموعة والمرئية عن الإسلام والعروبة. أما الترتيلات والأعمال الفنية الشعبية فباللغة العامية. ونشأت دعوات في الغرب لتقنين «اللغة العربية الحديثة» كبديل عن العربية الفصحى، وكحل وسط بين الفصحى والعامية. 
واقتصر دور مجامع اللغة العربية على حماية الفصحى ضد طغيان العامية؛ فانغلقت على نفسها تبحث في أمهات الكتب القديمة عن حلول للمشاكل المعاصرة، أو تؤبن الراحلين الذين أفنوا عمرهم في خدمة اللغة، وتصوّت على الأحياء الداخلين إلى مجمع الخالدين. وأصبحت صورة المجامع في الذهن الشعبي، العلماء الكبار، أصحاب العمم الملفوفة أو أصحاب الطرابيش الحمراء، أعضاء ومراسلين. وضمت المجامع بعض أعضاء الجمعيات العلمية لسائر العلوم الطبيعية، وهي جمعيات علمية متخصصة لا يدخلها إلا المتخصصون.. فأصبحت اللغة صنعة، وأصبح الكلام حرفة، وتحولت اللغة من السوق إلى القاعة، ومن الطبيعة إلى الصنعة، يسري عليها ما يسري على الشعر من قانون للتطور: «طبيعة فصناعة فصنعة فتصنع».

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة