وفاة المبدع تحيله رمزاً للإبداع وقدوةً للأجيال المبدعة الجديدة، وهكذا يستمر الإبداع وتستمر البشرية في البناء على ما سبق وتطويره في كل مجالٍ، ومن أهم هذه المجالات في العصر الحديث مجال الدراما والإنتاج الدرامي على اختلاف منتجاته بين المسرح والتلفزيون والسينما، وصولاً إلى موجة «المنصات» الدرامية أو «البلاتفورم»، التي تطغى اليوم على صناعة الدراما، وتفرض نفسها بقوة على كل قلاع الإنتاج الدرامي العتيقة من «هوليوود» إلى «بوليوود» وغيرهما.
رحل الأسبوع الماضي مبدعان كبيران في مجال الدراما العربية، هما حاتم علي ووحيد حامد، حاتم علي المخرج السوري الذي برز نهاية التسعينيات بعمله الملحمي «الزير سالم»، الذي خلد في الذاكرة العربية، وأتبعه بثلاثية الأندلس الخالدة «صقر قريش» و«ربيع قرطبة» و«ملوك الطوائف»، كما أعاد رواية تاريخ الإسلام الأول من خلال مسلسل «عمر»، وكلها من إنتاج مجموعة (إم. بي. سي)، وهي ستبقى في الذاكرة طويلاً، وقد أبديت له إعجاباً خاصاً بـ«ربيع قرطبة» كعمل درامي إبداعي.
تسنى لي في مراتٍ متكررة مقابلة المبدع حاتم علي، ولكنني لم أتعرف عليه شخصياً إلا قبل سنواتٍ قليلة، عندما كان مفترضاً بنا العمل معاً على عملٍ درامي كبير، فرأيت بأم عيني بعض مكارم الرجل وفضائله التي يتحدث عنها أصدقاؤه ومحبوه، ورأيت دقته الشديدة في عمله وتركيزه المتوازن بين الاهتمام بالصورة الكبرى، مع تركيزٍ مثيرٍ على أدق التفاصيل، وكم كان شغوفاً بعمله ومجاله وكثرة الأعمال التي يتطلع إليها.
بخلاف المبدع حاتم علي، لم أتشرف بمعرفة شخصية بالمبدع الآخر الكاتب و«السيناريست» الكبير وحيد حامد، وإنْ كنت قد تواصلت معه بخصوص أحد أهم أعماله الإبداعية وهو مسلسل «الجماعة» في جزئه الأول، ووحيد حامد كاتبٌ شجاعٌ ومحترفٌ وله دورٌ تاريخيٌ في محاربة الإرهاب درامياً مع المبدع الآخر عادل إمام، رحم الله الأول وأطال عمر الثاني، وهو كاتبٌ شديد الحرص على الحقائق والوقوف عند الوثائق ومعلوماته غزيرة وبحثه عميق، وهو وقف في وجه الإرهابيين من جماعة «الإخوان» إلى آخر عنصر إرهابيٍ متوحش.
كان وحيد حامد متجاوباً في كل النقاشات التي دارت بيننا ويذكر مصادره، ويطلب الرجوع لبعضها في مكتبته، ويحيل إلى بعض المثقفين والباحثين، ثم لا يجد حرجاً بتواضع الكبار أن يعدل معلومةً هنا أو قولاً هناك بما لا يؤثر مطلقاً على رؤيته الإبداعية واحترافيته العالية.
تعاني الدراما العربية كثيراً في مقابل تطور مثيلاتها في المنطقة وتحديداً التركية، وربما بعض الفارسية، مع توافر المبدعين في كل مجالٍ من العرب، وهذه مشكلة واسعة لا يكفي السياق لتناولها، ولكن الذي ينبغي التركيز عليها هنا هو أن مثل هذين المبدعين الكبيرين يجب أن يودّعا بما يليق بهما من عرفانٍ بالجميل ورسمٍ لآفاق الإبداع التي خلقاها وتخليد لذكراهما للأجيال القادمة، وتأكيد أن الدراما العربية على الرغم من كل العوائق قادرة على إبراز شخصيات بمثل هذه المكانة الراقية.
في الزمن الأصولي الماضي كانت وفاة المبدع في أي مجال فنيٍ مناسبة لتتحرك العثانين المهترئة للدعاة على أبواب جهنم من رموز الإسلام السياسي لشتمه وتبشيره بجهنم وكأنها ملك لهؤلاء المتطرفين، وهم لا يفوتون فرصةً لموت أي إرهابيٍ دمويٍ متوحشٍ إلا ويمجدونه ويصفونه بالشهادة ويعدونه بالجنة، في مرحلة سوداء من تاريخنا الحديث.
أخيراً، فقد بدأت الأجيال العربية الجديدة تبشر بتجاوز هذه المرحلة الأصولية السوداء، وتتجه للاحتفاء بالمبدعين والمشاركة في الإبداع والحرص على المشاركة في بناء العالم والحضارة والفنون، رحم الله حاتم علي ورحم الله وحيد حامد.