أخيراً وبعد خمس سنوات تقريباً من الآخذ والرد الذي يشبه «حرباً باردة» بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وقعت اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد «بريكست»، ليسدل الستار على واحدة من أكثر القضايا حساسية وتعقيداً في القارة الأوروبية، والتي ستترك آثاراً كبيرة ليس على الدول الأعضاء في الاتحاد فحسب، وإنما على علاقات الاتحاد الأوروبي وبريطانيا التجارية والاقتصادية مع مختلف الدول والتكتلات الاقتصادية، بما فيها المجموعة الخليجية والتي بدأت علاماتها في البروز، بمجرد الإعلان عن توقيع اتفاقية الخروج في اللحظات الأخيرة من العام الماضي.
لقد سادت علاقات الاتحاد الأوروبي الاقتصادية بدول التعاون الخليجي، خلال الثلاثين عاماً الماضية، الكثير من الشد والجذب بسبب إصرار الاتحاد على فرض رسوم تمييزية ضد الصادرات الخليجية، وبالأخص من الألمنيوم والمنتجات البتروكيماوية، وذلك رغم محاولات دول المجلس لحل هذه الإشكالات للتوصل إلى حلول وسط، إلا أن بروكسل تمسكت بمواقفها المتزمتة طوال العقود الثلاثة الماضية.
بخروج المملكة المتحدة من الاتحاد، تتوفر لدول المجلس أوراق تفاوضية قوية في علاقاتها مع الطرفين، وهو ما استغلته دول أخرى، كالولايات المتحدة وكندا وتركيا، من خلال توقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع بريطانيا، والتي ستتيح لمنتجاتها سهولة الدخول للسوق البريطانية الكبيرة والمهمة، في مقابل تسهيلات وامتيازات مماثلة للمنتجات البريطانية المصدرة لهذه الدول.
دول مجلس التعاون الخليجي أبدت منذ بداية الإعلان عن «بريكست» رغبتها في توقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع لندن، حيث جرت جولات من المفاوضات بين الطرفين، إلا أنها لم تتوج للأسف حتى الآن بتوقيع اتفاقية بهذا الشأن، حيث ساهمت العديد من التطورات غير المواتية خليجياً وبريطانياً في عملية التأجيل.
المطلوب الآن أن يسعى الطرفان، وبالأخص الخليجي، للدفع والإسراع بالتوصل إلى اتفاقية للتجارة الحرة، وهو ما سيؤدي إلى تحقيق مكاسب كبيرة للجانبين، فدول المجلس بحاجة لأسواق كبيرة بعد التقدم الذي حققته القطاعات الإنتاجية غير النفطية، وبالأخص البتروكيماويات والألمنيوم والسلع الاستهلاكية، في حين يتوقع أن تصاحب عملية الخروج بعض الصعوبات التجارية بين دول الاتحاد وبريطانيا، رغم توقيع الطرفين لاتفاقية للتجارة الحرة تزامنت مع عملية الخروج، مما يعني أن المملكة المتحدة ستكون بحاجة لأسواق توفر لمنتجاتها قدرات تنافسية أكبر، وهو ما سيحدث عند توقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع دول المجلس، حيث ستتمتع السلع البريطانية بقدرات تنافسية أكبر، مقارنة بمنتجات الاتحاد الأوروبي، مع ما يمثله ذلك من تحول مهم بفضل القدرات الاستهلاكية الكبيرة للأسواق الخليجية.
في المقابل سيتيح ذلك لدول التعاون قوة تفاوضية إضافية في علاقاتها مع الدول 27 التي لا زالت منضوية تحت راية الاتحاد، مما يتطلب استغلالها للوصول إلى اتفاقية مماثلة للتجارة الحرة مع بروكسل، والذي ربما ترى نفسها مضطرة لتقديم تنازلات لدول المجلس، وتتخلى عن بعض مواقفها المتشددة السابقة، الخاصة بتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة والمعطلة منذ ثلاثة عقود، فقواعد اللعبة تغيرت والاتحاد يمر بأسوأ أوقاته منذ تأسيسه لعدة أسباب، من بينها الأزمات المتكررة التي تعصف به، والتي تعمقت مع جائحة كوفيد-19.
يتطلب ذلك سرعة التحرك من الأمانة العامة لدول المجلس، خصوصاً وأن المملكة المتحدة سبق وأن أعلنت رغبتها في توقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع دول المجلس، إذ أن التأخير ربما يخلق تعقيدات جديدة، فالتطورات العالمية، بما فيها التجارية والاقتصادية تتوالى وعملية التجاذبات وتبادل المصالح في تغيير متسارع.
وفي هذا الصدد، يمكن أن يكون لغرف التجارة والصناعة في دول الخليج واتحاد الغرف الخليجية دور في عملية الإسراع في توقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع بريطانيا والاتحاد الأوروبي على حد سواء، فهذه الغرف تعبر عن مصالح القطاع الخاص، والذي له مصلحة حقيقية في التوصل للاتفاقيات التجارية مع مختلف الدول والتكتلات الاقتصادية، وبالأخص مع المملكة المتحدة التي تجمعهما مصالح مشتركة، وترتبط معها دول المجلس بعلاقات اقتصادية واستراتيجية تاريخية.