اعتبر الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن أن حادثة اقتحام مبنى الكابيتول هي «أسوأ يوم في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية»، في حين ذهبت العديد من كبريات الشخصيات السياسية الأميركية إلى أنها كانت انقلاباً ضد الديمقراطية والشرعية، وخلص البعض الآخر إلى أنها عودة للحرب الأهلية التي عرفتها أميركا في القرن التاسع عشر. 
لا يمكن التقليل من أهمية هذا الحدث الخطير الذي كان نهاية مأساوية لحكم الرئيس ترامب، ولعل أبرز سماته هو الدور المتصاعد للحركات الراديكالية المتطرفة العنيفة من جماعات اليمين المتشدد والاستعلائيين البيض الذين أظهروا تشبثهم بترامب ورفضهم لنتائج الانتخابات الكبيرة.
بيد أن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد حادثة عابرة في المسار السياسي الأميركي، ولا يمكن تفسيره كلياً بمزاج الرئيس ترامب، بل هو مؤشر بارز على أزمة عميقة تنخر المجتمع الأميركي منذ عقود وتؤثر على مؤسساته السياسية.
وفي كتابه الأخير الصادر بعنوان «استبدادية الاستحقاق» The tiranny of merit يذهب الفيلسوف الأميركي «ميكائيل ساندل» إلى أن جذور هذه الأزمة السياسية المجتمعية ترجع إلى ما أسماه هيمنة «الأسطورة الاستحقاقية» في الليبرالية المعولمة التي تماهي بين مبدأ الكفاءة في السوق الحرة والقيمة الأخلاقية للفرد، التي هي أساس حق الاعتراف الفعلي والاندماج الحقيقي في الحقل العمومي. 
ما حدث هو أن الحزب الديمقراطي، الذي أصبح في السنوات الأخيرة حزب النخب الليبرالية الأميركية، لم يدرك ظاهرة الانفصام المتزايد بين منطق السوق ومنطق الحقوق المدنية الاجتماعية التي لا تحكمها معايير الاستحقاق في مجتمع حر. إن الخطر الحقيقي في المقاربة الليبرالية من حيث تركيزها على معيار المساواة الأصلية في الفرص والحقوق هو إهمالها الطابع التعاوني التعاضدي للمجتمع الذي لا يمكن تصوره على شكل مؤسسة ربحية أو نفعية، كما ان مفهوم «الاستحقاق»، وإن قُدِّم في صياغة أخلاقية مجردة، لا يمكن أن يحل عقدة الاعتراف المعياري بالهويات المجموعاتية التي لا تراعيها أصلاً ديناميكية الحقوق الليبرالية.
وما يبينه ساندل هو أن لحظة ترامب كانت التعبير عن تنامي الحركة الاحتجاجية على الليبرالية الاستحقاقية المعولمة، في مرحلة لم تعد أطروحة «الإنصاف» كتعديل للأطروحة الليبرالية التقليدية (نموذج جون رولز) قادرةً على تهدئة الصراع المجتمعي القائم. 
صحيح أن الحركة الاحتجاجية الأخيرة تمحورت حول الاتجاهات الدينية الأصولية والنزعات العنصرية الاستعلائية والتيارات المحافظة التقليدية، إلا أنها تشكل من وجه آخر امتداداً لحركات العولمة البديلة والمجموعات اليسارية المتطرفة التي خرجت للشارع في عهد الرئيس السابق أوباما. 
وإذا كان الاتجاه الغالب في الإعلام العربي هو النظر إلى هذه النزعات الشعبوية التي تزايد حضورها ونفوذها في جل البلدان الغربية بأنها معادية للديمقراطية، إلا أنها في الحقيقة تطرح بطريقة إشكالية نفس الأسئلة والتحديات الجوهرية التي تعاني منها الممارسة الديمقراطية في الدول الليبرالية العريقة.
وقد بدأ منذ عقدين التفكير النقدي ضمن التقليد السياسي الليبرالي في آليات التمثيل والمشاركة والنقاش العمومي التي هي مقومات الممارسة الديمقراطية، وبرز للسطح الانفصام المتزايد بين هذه الآليات وفكرة الحرية المتجسدة في مؤسسات عمومية فاعلة والشرعية التي هي مبدأ وغائية الديمقراطية ذاتها. 
ما نلمسه اليوم في الأزمة السياسية الأميركية الحالية التي لا شك أنها ستبرز في حوادث مماثلة في بلدان غربية أخرى هو أن الآلية الانتخابية التي هي المسطرة الإجرائية الرئيسية في العملية الديمقراطية لم تعد قادرة على حسم موضوع الشرعية السياسية لنظام الحكم (أي الثقة في حياد وكفاءة المؤسسات الانتخابية)، مع ما يترتب على هذا التحول الخطير من ضعف وتآكل السلطة العمومية في مجتمعات يعوض فيها القانون المجرد سلطة العنف والإكراه. 
في بداية القرن العشرين كان لا يزال الفكر الليبرالي يتساءل حول أولوية الحرية أو السعادة في النظام الاقتصادي الاجتماعي، وقد توصل المفكرون الليبراليون إلى صياغة تأليفية بين المبدئين تركزت في الفلسفات النفعية والليبرالية التي ركزت أطروحة العلاقة العضوية بين الحرية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية. ما نشهده راهناً هو انحسار هذه الصياغة التأليفية بحيث لم تعد الحرية القانونية المجردة قادرة على ضبط ديناميكية الاندماج الاجتماعي، بما ينعكس ضرورةً في مسار التمثيل السياسي والتعددية الانتخابية.
ومن هنا يمكن القول إن المأزق الحقيقي الذي قادت إليه أحداث الكابيتول ليس تعطيل إجراءات التناوب السلمي على السلطة في الولايات المتحدة التي أثبتت مؤسساتها العمومية قوتها وكفاءتها، وإنما المأزق هو ضرب أطروحة الاستثناء الأميركي، وإضعاف القدرة الاستقطابية الفريدة للديمقراطية الأميركية في العالم.