الحديث عن التغيير في النظام العالمي ونعته بـ«الجديد»، يهيأ لنا وكأن هذه الجائحة أتت كـ «حلقة أخيرة» في مسلسل التاريخ الكوني الذي اكتفى، ونال القدر المكتوب له من الحروب الأيديولوجية، والبيولوجية، وغيرها. على اعتبار الإنسان عامل هامشي يتقلب بتقلب الأحوال والظروف التي تفرضها حقبته فيسجل لـ«نهاية التاريخ» كما يستشرف لذلك الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما، وذلك رغم أن الإنسان هو العامل الأساسي في التأثير والتأثر بكافة المجالات والسياقات المتاحة على وجه البسيطة، بل وصانع القانون الذي يحكم التاريخ، نتاجاً لخبراته المتراكمة، وهذا يذكرنا بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ». فالتاريخ لا يعطى على هيئة قوانين مغلقة، بل هو مجموعة من الأحداث والوقائع التي تنتظر تمحيص الإنسان - في كل ما يتعلق بالأحداث الماضية بالإضافة إلى الذاكرة، واكتشاف، وجمع، وتنظيم، وعرض، وتفسير المعلومات حول هذه الأحداث -، وإلا لاقتصر التاريخ الإنساني على تكرار قوالب جامدة ومغلقة إقصائياً، واستعلائياً، وتحجيرياً، وهذا ما نبه من السماح بحصوله عالم النفس الفرنسي «جاك لاكان»، إذ لا بد من إبقاء «التغيير» كثابت لا رجعة فيه على امتداد الوجود الإنساني. 

وفي سياق الحديث عن ذلك الثابت، فإن الجائحة لوحت في الأفق، إشارةً لضرورة التخلص من كافة التراكمات التي تعيق مسيرة الإنسان، وتفسد مظهر تطوره الحضاري، وتكاد التراكمات العالقة بين المجال الاقتصادي والأخلاقي إحدى أبرز المجالات المعوزة للتطوير عليها، تجنباً لحدوث أي حادثة إيديولوجية، تؤول لسقوط في التاريخ الإنساني، وبخاصة بعد إثبات ما ألحق بجوهر الإنسان والإنسانية من أضرار جسيمة نتيجة الانتصارات المستمرة للأنظمة الرأسمالية، والشيوعية، والإيديولوجيات القومية، والدينية، والاقتصادية النفعية. وقد أشار الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، لسمو المشاعر الإنسانية، الذي ينتج كثمار من الفكر المستذكر الخلاق، مكوناً مادة بليغة يمكن الاستناد عليها، فيقول:«إنّ ما هو أساسيّ في اكتشاف الواقع لم يتحقّق ولا يتحقّق بالعلوم، بل بالفلسفة الأصليّة وبالشعر العظيم وتصميماته...... فالشعر يجعل الكائن أوفر كائنيّة». 

وهذا لا يعني التنكر لإنجازات «العقل الأوروبي»، وبخاصة المساهمات التنويرية إنْ كان ذلك في عصور النهضة أو التنوير أو الحداثة، أو ما أسسته كل المدارس الفكرية والفلسفية سواء العقلانية أو الوجودية أو غيرهما من سلوكيات إزاء «المقدس» و«المجتمع» و«الدولة» خاصة بعد عصر ما بعد الحداثة، ولكنه يؤكد لما نتج عنها من سلبيات خارج الحدود الأوروبية، فارضةً المزيد من التحديات الفكرية والحياتية المعاشة في كافة مجالاته، ذلك أن العلوم التي كانت سبباً في النهضة والتطور، ساقت للانحدار والتراجع بتجريدها الواقع من الأنسنة، والتركيز على «شيئية» الأمور أياً تكون بمبالغة خانقة للنسق الإنساني، وبخاصة أنه يتحول ل«مادة قابلة للاشتعال» في حال وضع في مخبار «المادية التجريبية»، فالإنسان يميل إلى كل ما يتناغم وخصوصياته، ويحافظ على كرامته، ويقدر خلجاته ووجدانه الإنساني، فهو في بنائه لنفسه، أو لمجتمعه، أو لبلده بأكملها ينطلق من قيم التشارك والتعاون والتعاضد و«الأخوة الإنسانية»، فالإطفاق في شيئية الأمور وتجريدها من خصائصها والاستفراد بالاقتصاد، وكأنه كل الوجود، سيجعل الإنسان يذوب تحت طبقات عميقة جداً بداخل دوامة «الغرَق الشكّيّ»، الذي لا مناص منه إلّا كما يذهب إليه مؤسس الفلسفة الظاهراتية الفيلسوف الألماني «إدموند هوسرل»، من «خلال إعادة تأهيل العقل المتعاطف مع سنّة الحياة الإنسانيّة ومنعتها وكرامتها وخصوصيّتها».
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة