اختيار الرئيس الأميركي المنتخَب لويليام بُيرنز يعني أنه ينوي تسخير الاستخبارات لخدمة الدبلوماسية الأميركية بطرق لم نرها منذ أن قاد «الأخوان دالس» هاتين القوتين في الخمسينيات. وهذه من دون شك مهمة كبيرة وعاجلة. ذلك أن الدبلوماسية الأميركية باتت في حالة مزرية بعد أربع سنوات من رئاسة دونالد ترامب الكارثية. وصورة البلاد كمعقل للديمقراطية تضررت وخُدشت بشكل دائم عندما اقتحم أنصار ترامب مبنى الكونجرس الأسبوع الماضي. 
بيرنز عمل على مدى 33 عاماً دبلوماسياً داخل البلاد وخارجها. تجربة كبيرة وعميقة في الشؤون الخارجية لم يسبق لأي مدير للـ«سي. آي. إيه» أن تمتع بها. وقد قوبل اختياره بإشادة واسعة سواء داخل الـ«سي آي إيه» أو خارجها. 
في الماضي، كان كبار جواسيس أميركي ودبلوماسييها يخوضون حرباً مع بعضهم بعضا أكثر ضراوة مما يخوضونه مع أعداء البلاد، في معركة حول القيادة والسيطرة على السياسة الخارجية، حسب كلمات «جورج شولز»، وزير خارجية الرئيس رونالد ريجان. ولكن الأرجح أنك لن ترى هذا الاقتتال الداخلي البغيض خلال الأربع سنوات المقبلة. 
ذلك أن بيرنز لديه علاقة أخوة مع وزير الخارجية، توني بلينكن، الذي خلفه كنائب لوزير الخارجية قبل ست سنوات. ومعا، سيتعين عليهما العمل على غرار ما فعله آلن دالس وجون فوستر دالس عندما أدارا الـ«سي آي إيه» ووزارة الخارجية في عهد الرئيس دوايت آيزنهاور – غير أنه بدلا من خوض الحرب على الشيوعية الدولية، سيتعين عليهما محاربة من كان ترامب معجبا بهم ويحاكيهم. 
وستكون أمامهما مهمة أصعب بكثير، ألا وهي: إعادة بناء الدبلوماسية الأميركية من الأنقاض التي سيخلّفها ترامب وراءه، على غرار العمل الذي قامت به الولايات المتحدة لتصنع من ألمانيا واليابان دولتين ديمقراطيتين عقب الحرب العالمية الثانية. 
وإذا بدا لك هذا دراماتيكيا قليلا، فانظر حولك إلى ما فعله ترامب. 
عندما أُنشئت الـ«سي آي إيه» عام 1947، كان دورها المركزي هو تزويد البيت الأبيض ووزارة الخارجية بالمعلومات ودعم عملهما في الدفاع عن مثل الديمقراطية في عالم مزّقته الحرب. كانت المهمة هي معرفة العالم. ولكن الحرب الباردة شوّهت تلك المهمة. ثم سرعان ما بدأت الـ«سي آي إيه» تغيّر العالم. 
وجعلت الانقلابات السياسية والمهمات شبه العسكرية، الصامتة والصاخبة، من الـ«سي آي إيه» صانعة قوة ماحقة. ولاحقا، وصف الرجل الذي كان أولَ من وضع الجهاز السري التابع على الطريق إلى الحروب السرية – «جورج كينان»، الذي يُعد الدبلوماسي الأكثر احتراما في عصره – بـ"أكبر خطأ ارتكبته". 
وبعد ذلك، حوّلت الحرب على الإرهاب الـ«سي آي إيه» إلى قوة حارسة سجون سرية، ومشغِّلة طائرات مسيّرة، وهو دور عسكري يتجاوز بكثير الدور الذي حُدد لها في الأصل. وبالمقابل، تُرك العمل الأصعب المتمثل في سرقة الأسرار من خلال التجسس وفهم معناها من خلال التحليل، وبشكل أكثر مأساوية، عندما دفعت الـ«سي. آي. إيه» في اتجاه الحرب في العراق من خلال تقارير مخيفة حول أسلحة دمار شامل يمتلكها صدام حسين. ولكن الأسلحة لم تكن موجودة. 
مهمة جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها ثم تقديمها كما هي بدون «روتوشات» إلى الرئيس، كانت وما تزال الدور الأهم للـ«سي آي إيه». ولا شك أن «بيرنز» سيعمل على تجديدها وتقويتها. وهذا سيفيد في حماية الولايات المتحدة والدفاع عنها في الداخل والخارج. ومن المحتمل أن ينصت الرئيس المقبل إلى الـ«سي آي إيه» بعناية عندما تعطي تحذيرا – خلافا للرئيس جورج دبليو. بوش في أغسطس 2001، مثلا، عندما قدمت له إحاطة يومية بعنوان: «بن لادن مصمم على ضرب الولايات المتحدة». 
وينحدر «بيرنز» من مدرسة تقليدية – مدرسة الخدمة العامة -- انتُقصت وفُككت جزئيا في عهد ترامب. والده كان مديرا لـ«وكالة تحديد الأسلحة ونزعها». ودخل الجهازَ الدبلوماسي في وقت كان فيه دبلوماسيون وجواسيس أميركيون محتجزين كرهائن في طهران قبل 40 عاما. 
وكان «بيرنز» مستهلكا نهما لمعلومات الـ«سي. آي. إيه» الاستخباراتية، كمساعد لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، وسفير إلى روسيا في عهد بوش، ثم كوكيل الوزارة للشؤون السياسية، ولاحقاً كنائب وزير الخارجية في عهد الرئيس باراك أوباما؛ والأهم من ذلك كله، بوصفه الرجل الذي بدأ المفاوضات السرية التي أدت إلى موافقة إيران على التخلي عن برنامجها النووي، اتفاق ألغاه ترامب. 
لقد أضعف ترامب أميركا لدرجة أن إصلاح نقاط قوتنا سيستغرق جيلا. وهذا سيقتضي اعترافا بأن الاستخبارات والدبلوماسية هما المصدر الحقيقي للقوة الأميركية في الخارج، وليس القوة العسكرية. 
إن أميركا تواجه تهديدا جديدا، تهديد لم تكن لدى ترامب الرغبة للدفاع عن البلاد منه، حيث سرقت الملفات الأمنية الخاصة بـ22 مليون أميركي، بمن فيهم آلاف الأشخاص العاملين في الأجهزة الاستخباراتية، في محاولة لتوسيع حالة المراقبة في هذا البلد. وروسيا، وتم استخدام التجسس السيبراني للتوغل في أجهزة الحكومة الأميركية. 
إن الكفاح الجديد الذي نحن منخرطون فيه هو حرب سياسية – حرب معلومات حيث فضاء المعركة هو العقل البشري. ولخوض تلك الحرب، سيتعين على أميركا أن تتعبأ على غرار ما فعلت إبان الحرب الباردة، بتفان شديد. وللمساعدة على الفوز فيها، يجب على برنز أن يعيد إحياء مهمة (سي آي إي) الجوهرية، أي: فهم العالم، والتطلع إلى الأفق، واستشراف المخاطر المحدقة.

تيم وينر
*كاتب أميركي، مؤلف كتاب «الحماقة والمجد.. أميركا وروسيا والحرب السياسية 1945-2020»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»