في عقود ماضية بلغت اقتصاديات جماعات الإسلام السياسي أرقاماً فلكية باعترافات قيادات هذه الجماعات فضلاً عن الرصد لها من مراكز الدراسات والأبحاث والحكومات والباحثين المستقلين، وكان جانب مهم من تلك المبالغ الطائلة، يتجه نحو بناء جامعات وأكاديميات لا علاقة لها بالواقع وتحدياته ولا المستقبل وطموحاته.
أنفقت المليارات على صروح يفترض أن تكون علمية، وهي تخرج طلاباً بدرجات عالية جداً، ولكن في مواضيع تفصيلية مغرقةٍ في عدم الفائدة، ويتذكر المتابع بسهولة عناوين رسائل دكتوراه وماجستير، تثير الدعابة والسخرية حين معرفة أسمائها فضلاً عن مضمونها، في العديد من الدول العربية والمسلمة.
كانت أولويات تلك الجامعات متعددة وذات أوجه مختلفة، فبعضها سخّر نفسه لإعادة بناء إسلام جديد يتطابق مع رؤية جماعات الإسلام السياسي للدين ويخدم أهدافهم الحزبية والسياسية، ويشكل عقول النشء لخدمة تلك الأهداف كما يجعل للتشدد الفقهي مكانة واسعة يتم حث الطلاب على تناول كل المسائل من منظار التشدد والتضييق، لأن ذلك يورث سلطة على المجتمع في كل تصرفاته ومعاملاته الفردية والجماعية، وهم يفتشون عن جميع أشكال السلطة.
بناء على محدودية تلك الأهداف وتغطية تلك الجوانب سريعاً، فقد اضطر الكثيرون إلى البحث في بطون الكتب التراثية عن مسائل لا تسمن ولا تغني من جوع، وتقديمها رسائل جامعية ينال صاحبها الشهادات العالمية، ويصبح دكتوراً ويترقى ليصير بروفيسوراً ويشرف على مئات الطلاب والرسائل ويلقي الدروس في المساجد، ويقدّم في المجالس، وهو لا يفهم شيئاً في الدين أو في العلوم التراثية.
هي منظومة كاملة كانت مسيطرة على المجتمع والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في كافة المجالات، وكانت تدعم بعضها بعضاً في بناء «دولة» داخل الدولة مع «عزلة اجتماعية» تجعل أفراد هذه الجماعات مؤثرين في غيرهم وغير متأثرين في الوقت ذاته، وبالتالي فمجرد مساءلة هؤلاء الأفراد عن رسائلهم أو أفكارهم يعتبر خطراً وخطيئة دينية وذلك لحماية التافهين من أتباع هذه الجماعات من أي نقدٍ علمي أو موضوعيٍ لأنهم يعرفون حجم التفاهة التي ينتجونها وطبيعة الأشخاص الذين يصدّرونهم.
هذا العبث الممنهج للعقول والذي استمر لعقودٍ من الزمن أورث أجيالاً لا تحسن شيئاً من العلم ولا تحسن استخدام العقل ما خلق هدراً للأموال بغير فائدة وبطالة مقنعة منهكة للاقتصاد بغير عائد، وقد تباينت الدول في تدارك هذه المعضلة العميقة والواسعة فبدأت بإدخال تخصصات علمية مفيدة على تلك الجماعات وتحويل بعض الأقسام التراثية غير المفيدة إلى أقسام عملية تكون رافداً للقضاء والقانون والمساجد والأوقاف ونحوها.
مع صعوبة عرض أمثلة على هذا السياق لفحش بعضها ولا جدوى بعضها الآخر إلا أن المثال يوضح السياق، وثمة مثال يمكن عرضه هنا وهو رسالة علمية عنوانها: أحكام الأصوات الصادرة من الإنسان غير الكلام، ويمكن للقارئ استنتاج ما هي هذه الأصوات؟ وماذا يمكن أن تقدم رسالة بهذا العنوان للقارئ وللمجتمع؟
الطريقة الأنجع هي إنشاء جامعات جديدة ذات تخصصات مفيدة وملحة ومن ثم نقل بعض الأقسام القديمة في الجامعات غير المجدية إليها حتى يتم التأسيس على أسس علمية وأكاديمية معتبرة حتى يمكن القضاء على حقبة مظلمة من تاريخ المسلمين والعالم والدخول في المستقبل وتسخير كل الطاقات والإمكانات لبلوغه والمنافسة عليه.
أخيراً، فلا يعني هذا السياق أن كل من تخرّج من تلك الجامعات غير مجدٍ فمنهم الأذكياء والفقهاء المميزون والقضاة البارزون، ولكن الحديث هو عن حجم الأمور غير المجدية التي كانت تتبناها وتنتجها تلك الجامعات وغالبية مخرجاتها، وعن أفضل السبل لتدارك تلك الأخطاء وتجاوز تلك الخطايا.