دونالد ترامب ليس من نوع الرؤساء الأميركيين الذين تنتهي أدوارهم السياسية بعد خروجهم من البيت الأبيض. وهو ليس الرئيس الأول الذي لا يحصل على فترة رئاسة ثانية. ترامب ظاهرة سياسية اجتماعية تتجاوز شخصه، وتقترن بحالة تشكلت في أوساط قطاعات كبيرة من المجتمع، وتمكَّن هو من أن يُعبَّر عنها على نحو يدفع عشرات ملايين الأميركيين إلى الالتفاف حوله حتى اليوم. ولأنها ظاهرة لها حضورها في قلب المجتمع، وليس على سطحه فقط، فالأرجح أنها ستبقى حتى في حالة غيابه عن المجال العام، خاصةً إذا استمر خصومه في استهدافه على نحو يعمق الانقسام في المجتمع.
ولهذا، ليس مُستغرباً أن يُشعل هجوم شنه على زعيم «الجمهوريين» في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل قبل أيام المشهد السياسي، وأن تحظى مسألة احتمال ترشحه في انتخابات 2024 الرئاسية باهتمام واسع بعد أكثر من شهر على مغادرته البيت الأبيض، والأرجح أنها ستبقى كذلك إلى أن يُحدد موقفه سلباً أو إيجاباً.
ورغم محاولة الرئيس جو بايدن نفي تأثير ظاهرة ترامب على إدارته، وتأكيده في لقاء صحفي مع شبكة «سي. ان. ان» في 18 فبراير الماضي أنه سئم الحديث عنه، فهو لا يزال يقارن ما شرع في فعله بما كان في عهد سلفه، رغم أن بعض الاتجاهات الداخلية الحالية تبدو أفضل فعلاً بالنسبة لقطاع يُعتد به من الأميركيين، خاصةً المستفيدين من الإصرار على حزمة تحفيز جديدة تبلغ قيمتها 1.9 تريليون دولار، والمتطلعين إلى تلقي التطعيم ضد فيروس كورونا في وقت أسرع، مما كانت تشي به الإجراءات المتبعة في الأسابيع الأخيرة للإدارة السابقة. كما أن غير قليل من مساعدي بايدن متأثرون أيضاً بظاهرة ترامب، ونراهم يُنبهون الأميركيين إلى أن الرئيس يفعل أمراً أو آخر لم يقدم عليه سلفه رغم ضرورته.
وهذا يفسر استمرار الجدل حول محاكمة ترامب، واتجاهات تصويت الجمهوريين في مجلس الشيوخ، وهل كان عليهم أن يقترعوا لإدانته، أم أن ما فعله معظمهم هو الصواب؟ ويبدو أن هذا الجدل سيستمر لفترة أخرى، خاصة إذا رفع بعض أعضاء الحزب الديمقراطي دعوى فيدرالية ضد ترامب على أساس الاتهام الذي بُرئ منه أمام مجلس الشيوخ، وهو التحريض على التمرد واقتحام مبنى الكونغرس في 6 يناير الماضي، لكن أمام القضاء العادي هذه المرة بعد أن عاد الرئيس السابق مواطناً عادياً.
ويبدو الحديث المتداول في بعض أوساط الحزب الديمقراطي عن إمكان رفع هذه الدعوى دليلاً على قوة حضور ترامب، وانشغال بعض خصومه به، إما رغبة في انتقام لا تزال موجودة لديهم، أو سعياً إلى إخراجه من المشهد السياسي، اعتقاداً في أنه لم يُبرَّأ في مجلس الشيوخ إلا لخشية معظم أعضائه الجمهوريين من أثر سلبي لإدانته على حزبهم في مجمله، أو خسارة هذا أو ذاك منهم أصوات قاعدته الانتخابية.
غير أن الإقدام على رفع دعوى ضد ترامب أمام القضاء يتطلب حسابات قانونية دقيقة، والتفتيش عن أدلة لا توجد حتى الآن، وليس مجرد الاعتماد على خطابه الذي حث فيه أنصاره على القتال ضد ما أسماها سرقة الانتخابات الرئاسية، وهو ما استند عليه قرار مجلس النواب باتهامه. فهذا الخطاب ليس دليلاً في غياب ما يُسمى قانونياً العلاقة السببية بينه وبين سلوك المشاغبين الذين اقتحموا المبنى. فكلمة قتال تُستخدم في مجالات مختلفة بمعنى بذل أقصى جهد لتحقيق هدف معين سواء في حالة التنافس، أو عند التصدي لمهمات كبيرة وأعمال عظيمة ومواجهة أزمات شديدة. وقد عرض فريق الدفاع عن ترامب أمام مجلس الشيوخ فيديوهات ظهر فيها كثير من قادة الحزب الديمقراطي وهم يتحدثون عن القتال ويحثون عليه في مناسبات مختلفة، بمن فيهم الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس. ولهذا قد لا يؤدي رفع دعوى قضائية عادية ضده إلا إلى دعم حضوره في المشهد السياسي ورفع أسهمه بعد تبرئته مرة ثانية.
والحال أن الأشخاص الذين يُعبّرون عن ظواهر سياسية كبيرة لا يمكن مواجهتهم عبر معارك «صفرية» تنتهي إلى إخفاق محاولات إقصائهم من المشهد، بل بفهم العوامل التي أدت إلى هذه الظواهر. ويعني هذا، في حالة ظاهرة ترامب، إدراك أن قطاعاً واسعاً من الشعب الأميركي غير راضٍ عن النخبة السياسية التقليدية في معظمها، ومن ثم السعي إلى وضع حد لجمودها وتقصير المسافات التي باتت تفصلها عن كثير من المواطنين الأميركيين.