أيّاً تكن الأسباب، ينبغي ألّا يُترك لبنان واللبنانيون لهذا المصير البائس الذي يُدفع ويُدفعون إليه. هذا بلدٌ عربي يخطو يومياً نحو الغرق في أزمة خانقة تتحمّل منظومته الحاكمة أولاً مسؤولية تفاقمها إلى حدّ يهدّد الدولة والجيش بالتفكّك. وهذا شعبٌ عربي تبخّرت أمواله الخاصة والعامة بفعل الفساد المستشري في أوساط سياسييه، ولم يعد له حاضر ولا مستقبل، إذ يغزوه الفقر والجوع. ورغم أن «حزب الله» يسيطر على مفاصل الدولة ويهدّد بسلاحه غير الشرعي كل الخيارات والحلول، فإن المجتمع لا ينفك يبدي كل أشكال المقاومة والممانعة لهيمنة «محور الممانعة» على حياته، ويحتاج إلى حضور عربي مادي ومعنوي يدعمه، وإلى مواكبة سياسية عربية تساعده على تجاوز المنعطف التاريخي الخطير الذي يمر به.
وعدا الإفلاس المالي للدولة، وانهيار النظام المصرفي، ها هي عوارض الخطر تنال من المؤسسة العسكرية، فالجيش يضعف وميليشيا «حزب الله» تقوى، ولا يمكن للشعب أن يقبل يوماً بأن يحكمه سلاح مأجور مهما أمعن في إرهابه. هناك العديد من المخارج لهذه الأزمة، وهي صعبة جميعاً، لكن الطبقة السياسية برهنت أنها تفضّل إفقار الشعب كوسيلة للحفاظ على نفوذها، لذا فهي تعطّل كل الحلول وتُحبط كل المبادرات، وبالأخص المبادرة الفرنسية المدعومة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لأنها تشترط وجود حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة منذ زمن. فالإصلاحات تعني للمنظومة الحاكمة نهاية عهد ساده التواطؤ المتبادل على تغطية الفساد ونهب المال العام وممارسة التهريب بأنواعه كافةً، واستطراداً ستقود الإصلاحات إلى تغيير في الخريطة السياسية حتى ولو بقيت محكومة بالطائفية، فالأوجاع الاجتماعية القاسية ستكون حَكَماً في تصعيد رجالات الدولة.
وحتى من قلب هذه الطائفية، التي شكّلت صيغة تعايش وتجربة إنسانية فريدة، قبل أن تجعلها الميليشيات مرضاً فتّاكاً، تتصاعد أصوات حكيمة ومعتدلة، بل إن بطريرك الموارنة بشارة الراعي أضحى الكفّة الوازنة معنوياً في مقابل الميليشيات وسلاحها، إذ يتحدّث حالياً لأجل اللبنانيين وباسمهم، وبات الجميع يعلمون أنه لا يدافع عن المسيحيين وحدهم، بل يقول بصوت عالٍ ما يفكّر فيه المسلمون على اختلاف مذاهبهم. فما أصبح على المحك الآن هو وجود الوطن نفسه. كل ما يطرحه البطريرك مستوحى مما سبق وتوافق عليه اللبنانيون -الدستور و«اتفاق الطائف» و«ميثاق العيش المشترك» وقرارات الشرعية الدولية- وبالأخص من تاريخية التجربة اللبنانية التي مرّت بأيام حالكة وأيام زاهية قبل أن تستقرّ. لكن ميليشيا «حزب الله» ومن يحالفها لمآربه الخاصة يهدمون كل شيء ليبنوا فوق الأنقاض «دولتهم» الهجينة. 
أعاد البطريرك إطلاق فكرة «حياد لبنان» التي كانت دائماً ماثلة في الأذهان، وتحديداً للتخلّص من الوصاية السورية والآن من الوصاية الإيرانية. ثم اقترح «مؤتمراً دولياً» خاصاً بلبنان، وأي دعم عربي يمكن أن يفعّل هذا المؤتمر. سبق للعرب أن أقرّوا بـ«حياد لبنان» كعُرف وتقليد واعتراف بخصوصية تعدّديته، فرغم النفوذ الكبير الذي حققته مصر ثم السعودية، لم تزكِّ أي منهما أو تدعم أي وجود مسلح يهمّش الدولة، كما لم تعبثا بالصيغة السياسية للبنان، بل اهتمّتا باستقراره.
أكثر من أي وقت مضى، يحتاج لبنان إلى عودة رعاية عربية قوية تؤازر الجهود المحلية والاهتمام الدولي بـ«إنقاذه» ليس فقط من الميليشيات وحلفائها، بل أيضاً من تشظّي البلد وما يمكن أن يعنيه ذلك إقليمياً.