مكاسب وفوائد عديدة يمكن رصدها، إثر الزيارة التاريخية للعراق التي قام بها البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، مؤخراً، كونها أول زيارة لبابا الكنيسة الكاثوليكية عموماً إلى بلاد الرافدين وأرض أقدم الحضارات، ولأنها أيضاً أولى زيارات البابا منذ إعلان تفشي وباء كورونا. وبتلك المناسبة كان قد أعلن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يوم 6 مارس يوماً وطنياً للتسامح والتعايش في العراق، الذي يئن تحت وطأة الحروب والاضطرابات والنزاعات الطائفية والعمليات الإرهابية منذ سنين طويلة.
لا تكمن أهمية تلك الزيارة بالدعوة فقط إلى ضرورة التآلف بين مختلف مكونات العراقيين، إنما أيضاً  إلى تذكير المجتمع الدولي بمحنة العراق، وأهمية العمل على تحقيق الأمن والاستقرار والسلام فيه، وذلك بتقديم المساعدات المهمة والضرورية لإعادة إعماره بعد كل الدمار الذي حل عليه وبه، من أجل عودته إلى دوره الحضاري والريادي عربياً وإقليمياً ودولياً، وهو الدور الذي كان يقوم به قبل عقود.
ما يدعو للتفاؤل بسبب تلك الزيارة أنها تمت وسط استقبال شعبي ورسمي، ولقيت ترحيباً دولياً ليس فقط على صعيد الدول، إنما أيضاً على صعيد المؤسسات الدينية، فقد وصفها شيخ الأزهر أحمد الطيب بأنها زيارة تاريخية وشجاعة، واعتبرها «مجلس حكماء المسلمين»، فرصة لتعزيز السلام، ورسالة تضامن مع ضحايا العنف في المنطقة والعالم.
ضمن أجندة الزيارة؛ حرص البابا فرنسيس على الانتقال بين عدة مدن لها وزنها التاريخي وثقلها الديني في العراق، وهي بغداد والنجف وأربيل وأور مسقط رأس النبي إبراهيم كما يُعتقد، والموصل التي عانت كثيراً بعد سيطرة «داعش» عليها وتدميره له عام 2015، بما فيها الكنيسة الكبرى «الطاهرة» القديمة في قرية قره قوش، والتي كانت محل إقامة البابا. الكنيسة شهدت قداساً له رمزية كبيرة، خصوصاً بعد إعادة بناء وترميم الأجزاء المدمرة منها، وهو ما تم بالتعاون بين منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) والإمارات، وذلك كجزء من مشروع «إحياء روح الموصل»، الذي أطلقته اليونسكو عام 2018.
كثيرون استبشروا خيراً بزيارة البابا، وهو الذي قال إن العراق (سيبقى دائماً معي وفي قلبي)، وطلب ألا يتاجر البعض بالدين ويقتل باسمه، لأن خيار الناس عموماً هو العيش بسلام وطمأنينة في جو تسوده الثقة بين جميع الأطراف، والمحبة، والتعاون من أجل العودة إلى عراق التاريخ، وعراق بلا طائفية، فينبذ أهله الخلاف والصراع والإرهاب، ويحافظوا على ما فيه من فسيفساء فريدة تثري المشهد والحياة في بلاد ما بين النهرين، كونها المنطقة التي أسرت العالم بما وُلِد فيها من حضارات، وبما صدّرته من علوم وفنون وقوانين على مدار الآلاف من السنين.
غير أن كل هذا الأمل مقترن بما سيفعله ساسة العراق، أولئك الذين عليهم أن يوفروا ضمانات تحقيق السلام والتفاهم والمصالحة بين أبناء الوطن الواحد على اختلاف أطيافهم، ومتى ما توافرت الإرادة لذلك لن يكون كل ما سبق مستحيل، ففي ظل وجود حكماء من مختلف الأطراف سيكون الجميع قادراً على تهدئة نفوس العراقيين والأخذ بأيديهم، وهو ما سيسهم حتماً بنبذ الخلافات ويوقف عجلة الصراعات ويقضي على النزاعات، وكل ذلك سيبني أرضية جامعة للعراقيين الذين عرفناهم وعرفهم كل العرب كمبدعين، ومتفوقين، ومنشغلين ببناء بلدهم قبل أن يشتعل أول فتيل حرب. ومن يدري؛ فقد يعيد السلام عدداً كبيراً ممن هاجر من أبناء العراق بدءاً من ستينيات القرن الماضي.
اليوم، وبعد زيارة البابا فرنسيس لأرض العراق، نأمل أن يستعيد أفراد المجتمع العراقي ثقتهم ببعضهم البعض، ويستعيدون كذلك ثقتهم بالساسة، فخوف أبناء العراق على أرضهم وهويتهم، لا بد وأن يكون دليلهم كي يحموا مصالحهم أولاً، ويصبح بلدهم في المستقبل القريب هو البلد الذي يتمنون أن يكون عليه.. البلد الذي سيبقى دائماً معنا وفي قلوبنا كما قال البابا.