تمشي في شوارع بيروت وكأنما لم تعد مدينة، ولا شوارع مدينة، ولا ناس مدينة، ولا جغرافيا ولا سمات مدينية.. بل لم تعد سوقاً تجارية، أو مساحة متميزة برمزيتها، تاريخية كانت أم اجتماعية. ربما ذكرى أسواق، ومحال، وأبنية، وناس، يتحركون فيها.. كأنما في فيلم خيالي كابوسي.
حتى الواجهات التي ما زال بعضها مليئاً بالبضائع تحسها فارغة، مهجورة، بلا زبائن، كل شيء بات مفقوداً ومفتقداً فيها. كل شيء بات على حافة السقوط أو الانهيار، أو فراغ أو إفراغ، أو إفلاس، أو إغلاق. لم يعد يذكرك ببيروت سوى يافطات وأسماء شوارع، وأزقة وأبنية. كيف توقَّف كل شيء فيها؟ بل كيف وصل كل شيء إلى «نهايته» أو إلى شغوره؟ الدولار يرتفع على مدار اللحظة، أحياناً لا على مدار النهار، ومعه ينخفض المخزون المالي بالليرة، بقدر ما يختفي الدولار من السوق، تتحول الليرة مجرد ورقة، قصاصة، لم تعد تشتري ولا تبيع. السيارات مرمية على أطراف الشوارع، والطرق العامة. السوبرماركات بزوار محدودين، ومنها ما أغلق أبوابه. لا بضاعة ولا زبائن. الصيدليات فارغة رفوفها من الأدوية.
عدا أن عشرات منها قد أقفل في بيروت وفي المناطق. مرضى بلا أدوية. وأدوية لا تشفي مرضى، لا سُكر، لا رز، لا برغل، لا حليب أطفال، لا أفران، لا زيت، لا مستشفيات.. كأنما أمام جهنم جليدية هنا وأخرى مشتعلة هناك: لم يعد الناس يمتلكون سوى ما تبقى لديهم من قوة تدفعهم إلى الغضب والتظاهر، وإغلاق الطرقات، وإشعال الإطارات، وإطلاق صرخات مسلوخة من القلوب والحناجر والصدور. يتحركون شراذم أو مجموعات في بيروت، وفي كل المناطق اللبنانية، شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً: فالمصيبة لم تعد استثنائية، بل عمومية.
إنها لحظات هشة بصلابتها، صلبة بهشاشتها، حبلى بالتحول أو بالتحوّر، أو بما هو متوقع أو غير مسبوق: كأنما كل شيء بات، مع تفاقم الأمور، منتظراً في خطوط تصاعدية قد تفلت من كل اعتبار أو قيد أو سيطرة، فالشارع يغلي، يهتف ويبكي ويئن ويزمجر ويشتم، يهدر، وقد تتصعد فيه الأمور إلى الفوضى العميمة، إلى العنف الجامح: فليس للانهيار الشامل حدود، ولا يقتصر على المستويات الاقتصادية، بل أيضاً على السياسي والاجتماعي وحتى النفسي: انهيارات في حجم النكبات الكبرى، وقد تتجلى مفاعيلها، مع تراكم الإحباطات، والتراكمات، والبؤس واليأس، والغضب، إلى زعزعة أمنية عمومية، تتمثل بردود فعل في الشوارع، أعنف، وممارسات أكثر غلواً. تدفع إلى ارتكاب أفعال شديدة الخطورة، قد تصل إلى اقتحام المحال، والسوبرماركات والمخازن، والمصارف، وتحطيمها أو حتى نهبها. بل قد يعمد هؤلاء المنكوبون بسلطتهم، إلى اختراق بعض منازل المسؤولين ومكاتبهم، بل قد يؤدي انفلات الأمور إلى اللجوء إلى الاغتيالات، والسرقات، واستخدام الأسلحة وتفجير القنابل.. بل قد يرتد بعض العنف إلى ذوات المحتجين أنفسهم، كحرق الأجساد في الشوارع، أو الانتحارات داخل المنازل والأزقة.
لكن هل من أفق، أو فتحة في جدار هذه النكبة؟ كل الأمور راهناً لا توحي بذلك، اللهم إلا إذا حدثت معجزة يطل فيها رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري بحكومته، ويوافق عليها الرئيس عون، ومن ورائه «حزب الله»، وتتمتع بشروط البنك الدولي، والدول والمؤسسات المانحة!
هل بدأت تطل «ملامح المعجزة» من الاجتماع المفاجئ بعد ظهر الخميس بين الرئيسين عون والحريري؟ وهل سيتم الاتفاق على الصيغة الوزارية التي سيقدّمها الحريري إلى الرئيس عون الاثنين المُقبل؟ هل نستعير عنوان قصيدة إليوت، «الأرض الخراب»، لوصف لبنان الحالي؟

*كاتب لبناني