ربما تكون التجربة الأردنية ناجحة في التعايش، رغم أننا لسنا أمام طوائف، ولا أعراق مختلفة، إنما عنصران ينصهران بالتتابع، أردنيون من أصحاب المكان حين قامت الدولة، ورسمت الحدود على ضروب قبائل مستقرة، وفلسطينيون جاءوا إلى رحاب بلد عربي، وصاروا من أهله، حيث تشابكت الأنساب والمصالح، ومرت السنون، واتجهت الحقوق السياسية نحو المساواة.
ذهبت إلى الأردن مرات، وكان يشغلني أن أرى كيف تنجح دولة في لملمة صهر عناصرها، مدفوعاً بما قرأت عن تاريخ تكوين هذه الدولة، ومن بدأو فيها، ومن أتوا إليها، واندمجوا، راضين بالأسرة الهاشمية حكماً، وناظرين دوماً إلى تصرف الملك، الذي يحرص على عدم التفرقة بين أبناء الشعب.
هكذا قال لي رجل أردني من أصول فلسطينية، وراح يحدثني، بينما الحافلة تجري بنا على طريق مُعّبد جيداً في اتجاه البحر الميت، في تلك الليلة الصيفية الرائقة. كنا ذاهبين إلى أدنى الأرض، كما أخبرنا القرآن، وكنت أتطلع إلى بحر ليس كأي بحر في الدنيا. لم أنشغل بما يجود به من أدوية علاجية، لاسيما أن الإقامة كانت في الفندق العلاجي هناك، لكن بالماء الذي يحملك نائماً على ظهرك، ويتركك تنظر طويلاً إلى السماء دون خوف.
وبينما الماء يأخذني لأدور وأعود بين أجساد طافية، سمعت أحاديث بلغات شتى. عرفت منها الإنجليزية والفرنسية ولغات أخرى قريبة من العربية، ولغات أخرى قدّرت أن بعضها كان الإيطالية والإسبانية والروسية. وكانت لدي فرصة النظر إلى سحنات أصحاب هذه الألسن الناطقة، فقدرت أنهم كذلك. أتوا من بلدان بعيدة، وتجمعوا هنا، بحثاً عن علاج. 
حين نظرت إلى الجالسين وقد قاموا بطلاء أجسادهن بالطين، حتى صاروا كائنات سوداء، لا يختلف فيهم سوى ألوان العيون، سوداء وبنية وزرقاء وخضراء وعسلية، وكذلك لون شعر الرؤوس. حين أمعنت النظر فيهم قلت لنفسي:
ـ رغم اختلاف الثقافات والأماكن وألوان البشرة، لا يتشابه البشر في مشاعر الفرح والحزن وفي الرغبات فقط، بل أيضاً في شيء يقسو على الجميع دون تفرقة، إنه المرض. فالسرطان والزهايمر والسكري مثلاً، لا تفرق بين أبيض وأسمر وأحمر وأصفر، لهذا أصبحت الأدوية هي أكثر اللغات تداولاً بين البشر جميعاً.
في المساء عشنا حالة من التعايش بين الماضي والحاضر، حين جلسنا نحن القادمين إلى هنا، لنناقش آخر مستجدات قوانين وتدابير حقوق الإنسان في العالم، نستمع إلى رقصات شعبية من قلب البادية، ونأكل واحدة من وجباتها الشعبية القديمة الجديدة، وهي «المنسف»، والتي تساوى أمامها شباب منغمسين تماماً في الحداثة، وذلك الرجل البدوي البسيط، الذي كان بين جمهور الندوة. 
لم يكن البحر الميت فقط للراغبين في الطفو المختلف، فأهل المكان عرفوا هذا كثيراً، حتى لم يعد يدهشهم، فبحثوا فقط عن ألفة على هذا البراح الممتد لمسافة طويلة فوقه، حيث الرصيف الواسع على جانب الطريق الذي سلكته الحافلة.
لم أعرف، وأنا أمر عليهم في هذه الليلة الساجية، من فيهم من بدو الصحراء، أو أولئك الذين أتوا إليها من الحضر، أو من فيهم من الأردنيين الأقحاح أو أولئك الذين جاءوا من فلسطين بعد احتلالها. كانوا جميعاً بشراً يبحثون عن بعض مسرة في هذا الجو الخانق، ويهربون من صحراء فرضت عليهم إلى براح يمتد فوق ماء راكد، لكنه مفتوح على تاريخ هناك، حيث أضواء الضفة الغربية من فلسطين، والتي تشكل على ضيقها ضلعاً من تاريخ أمة العرب، حتى وإن ضاقت مساحتها.