توجد الأرجنتين في وضع بات مألوفاً الآن، فهي غارقة في الديون، وسمعتها في الأسواق المالية على ما يرام، وواقعة تحت رحمة صندوق النقد الدولي. وعندما يكون بلد ما مديناً بـ45 مليار دولار، هي الرصيد المستحق على أكبر قرض إنقاذ لصندوق النقد الدولي على الإطلاق في عام 2018، فإنه لا يكون مديناً لمقرضه بقدر ما يصبحان متلازمين لا ينفصلان. والأدهى من ذلك أنه بعد 9 حالات من التخلف عن سداد الدين السيادي، و21 حزمة إنقاذ مالي سابقة من صندوق النقد الدولي، و6 عقود متتالية من 200% من التضخم السنوي، هذا ناهيك عن الوباء الذي حصد أرواح قرابة 57 ألف شخص حتى الآن.. لم تعد معضلة الأرجنتين تفاجئ أحداً.
صندوق النقد الدولي والأرجنتين يتجادلان حالياً حول شروط «تسهيلات ديون طويلة» لحل أزمة تمويل البلاد، ونوع الإصلاحات التي ستتبناها بالمقابل. غير أن متاعب المبذّر الأكبر في القارة والمخاطر العالية التي يواجهها صندوق النقد الدولي يغذّيان إجماعاً على أنه سيتعين على أي اتفاق الانتظار إلى ما بعد الانتخابات النصفية في الأرجنتين في أكتوبر المقبل. صحيح أن الالتزام باتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي وتقليص المصروفات الذي يتطلبه أي اتفاق من المستبعد أن يساعد الرئيس ألبيرتو فيرنانديز في صناديق الاقتراع، حيث أغلبيته الحاكمة الضيقة، وبالتالي تسديد ديون صندوق النقد الدولي، معلقة في الميزان. غير أن المشكلة هي أن تأجيل إصلاحات منقذة من أجل تحقيق امتياز حزبي إلى ما بعد الانتخابات، قد يكون الخطر الأكبر، خطر لا يهدد بحرف عودة الأرجنتين إلى النمو المستديم عن سكتها فحسب، ولكن أيضاً بتشويه سمعة فيرنانديز وحلفائه بسبب إهدار فرصة لتصحيح مسار البلاد. 

والحق أن مشكلة ديون الأرجنتين لها صانعون كثر. فبعد أن اعترفت بتخلف آخر عن التسديد العام الماضي، توصلت الأرجنتين إلى اتفاق مع مقرضين خواص حول إعادة جدولة 65 مليار دولار من الديون التي تجاوزت تاريخ استحقاقها. وقاد وزير الاقتصاد مارتن غوزمان محادثات العام الماضي، والآن عاد إلى مفاوضات عسيرة مع صندوق النقد الدولي، الذي يبدو أن قرضه للإنقاذ في 2018 بات في حاجة إلى الإنقاذ. 

والحال أن آخر ما تحتاجه الأرجنتين هو تخلف آخر عن التسديد بعد تخلفاتها السابقة. غير أن هذا قد لا يحدث. فمع ارتفاع أسعار حبوب الصويا والقمح الأرجنتينيين، قد تؤدي طفرة في الصادرات إلى مساعدة الاقتصاد إلى حين عقد اتفاق جديد مع الصندوق. ونظراً لأن الأرجنتين تريد ماله، ولكنها لا تريد المكوّنات الأخرى المزعجة المربوطة به ضمن حزمة واحدة، مثل تقليص الإنفاق العام، وإصلاح الضرائب، ورفع الأسعار، ومراقبة صرف العملات، وإنهاء الدعم.. تجد الحكومة صعوبة في الحفاظ على دعم الناخبين لها، والمقرضون يراقبون ويخمّنون. 
وهكذا فإن الأرجنتين تتحدث بنبرة صارمة بينما تعوّل على موجة سلع ثانية، إضافة إلى الوعد بما يصل إلى 4 مليارات دولار من «حقوق السحب الخاصة» من صندوق النقد الدولي لسداد مدفوعاتها هذا العام. غير أنه حتى إذا نجحت هذه الاستراتيجية، فإن هذه الحلول الجزئية والترقيعية لا تمثّل خطة. فالبلد سيتعين عليه دفع 18 مليار دولار لصندوق النقد الدولي العام المقبل، و19 مليار دولار أخرى في 2023، في وقت تنضب فيه احتياطيات البنك المركزي. وعلاوة على ذلك، فإن الخطر الأكبر بالنسبة للأرجنتين هي التكلفة البديلة لإرجاء اتفاق في عام يهبّ فيه المقرضون الرسميون لتخفيف الوباء وتأثيراته الكارثية. وفي هذا الصدد، قال لي بنجامان جيدان، المختص في الأرجنتين بـ«مركز ويلسون»: «لقد باتت هواية الأرجنتين هي شيطنة صندوق النقد الدولي. وفي الأثناء، يتهافت جيرانها في المنطقة للحصول على قروض الطوارئ الحيوية»، مضيفاً: «وبينما تجلس الأرجنتين على خط التماس، كانت أميركا اللاتينية أكبر مستفيد من قروض الطوارئ التي يمنحها صندوق النقد الدولي خلال الوباء. وبلغ مجموع هذه القروض خلال عام 2020 نحو 65 مليار دولار، أي أعلى بـ54% من حجمها في عام 2019». ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن البلاد تضيّع كذلك جني مكاسب ممكنة من أسواق رؤوس الأموال التي ترغب في الاستثمار. وفي هذا الصدد، يقول المدير التنفيذي السابق لصندوق النقد الدولي هكتور توريس: «لدينا فائض كبير في الدولارات في النظام المالي الدولي وسكان عالميون يتقدمون في السن. وصناديق التقاعد تسعى جاهدة إلى تحقيق بعض الأرباح.. وبالتالي، فإذا وفّرتَ حداً أدنى من الأمن بخصوص ضمان السداد وإمكانية التنبؤ، فإن المال سيأتيك». 
غير أن القليل فقط من ذاك المال من المحتمل أن يصل إلى الأرجنتين بدون عملية إعادة ضبط وطنية. ويقول ألبيرتو راموس، من مؤسسة «غولدمان ساكس»: «الواقع أنه بإمكان البلد تحقيق استفادة ضخمة، لكن شريطة أن يخضع للإصلاحات اللازمة ويرتب أموره».

 

 

*كاتب متخصص في شؤون أميركا اللاتينية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبىرج نيوز سيرفس»