يبدو الحوار العربي الأميركي متعثراً بعض الشيء، نظراً لتضارب المواقف وتعارضها بين الطرفين في أكثر ملف، بما في ذلك العولمة التي تجعل النظام العالمي الجديد ذا قطب واحد. وتبقى للعرب صراعات داخلية في العديد من دولهم؛ بين العرب والبربر، الأكراد والعرب، والمسلمين والمسيحيين، الشيعة والسنة.. وهي نزاعات عرقية وطائفية ومذهبية في معظم أنحاء العالم العربي. ومع ذلك فإن لهذا العالم العربي من العوامل الوحدة الكثير مقابل ما لأوروبا الموحدة على الناحية الأخرى من الأبيض المتوسط، هذا المتوسط الذي يستطيع إذا ما حدث تعاون بين ضفتيه إحالة قلب العالم القديم إلى قلب العالم الجديد. فالشمال والجنوب على شاطئ المتوسط متكاملان تاريخياً وجغرافياً وثقافياً. وكلاهما مفتوحان على آسيا من الشرق وعلى الأميركيتين عبر الأطلسي من الغرب.. فهما مركز الثقل في العالم.
والحوار العربي الآسيوي هو استئناف لتضامن شعوب أفريقيا وآسيا وباندونج وقلب العالم الثالث مع أميركا اللاتينية. والشرق امتداد طبيعي للعالم العربي. ليس بين الاثنين إرث استعماري كما هو الحال مع الغرب. لقد ساهما معاً في حركة تحرر العالم الثالث، وكوّنا كتلة عدم الانحياز. وكان الإسلام أول ما انتشر انتشر شرقاً باعتبار الامتداد الجغرافي للعالم العربي في آسيا. لذا فإن ما يزيد على ثلاثة أرباع المسلمين حالياً في آسيا، وأكبر دولة إسلامية في آسيا أيضاً. وأصبحت النهضة الآسيوية اليوم مظهر إعجاب ومنافسة من النهضة الغربية التقليدية بالأمس. وأصبحت النمور الآسيوية نموذجاً تنموياً يحتذى به في عالم قائم على تبادل المصالح مع المحافظة على الاستقلال الوطني.
ويتحدث الغربيون أنفسهم عن «أفول الغرب» وعن «ريح الشرق».. فيما يبدو أن العصور الحديثة الغربية أوشكت على النهاية بعد أن بدأت منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، وعصر النهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والثورة الصناعية الأولى في التاسع عشر، والثورة الصناعية الثانية في القرن العشرين، مع حربين عالميتين طاحنتين أدتا إلى الإحساس ببداية النهاية. وتحدث الفلاسفة عن «قلب القيم» (شيلر) و«إفلاس الفلسفة» و«أزمة العلوم الأوروبية» (هوسرل) و«الآلة التي تصنع آلهة» (بريجسون). وإذا كان نيتشه قد أعلن في نهاية القرن الماضي «موت الإله» وحياة الإنسان، فان كارل بارت قد أعلن في نهاية هذا القرن موت الإنسان.. فسادت العدمية والشك والنسبية واللاإرادية. وظهرت في فلسفات ما بعد الحداثة والتفكيكية التي تنكر النظام والعقل والقانون والنسق في العقل والطبيعة والفن والمجتمع. البداية مع «مقالة في المنهج» لديكارت، والنهاية في «ضد المنهج» لفايرآبند.. البداية في «العقل النظري» عند كانط والنهاية في «وداعاً للعقل» لفايرآبند، البداية في «البناء العظيم» لبيكون، والنهاية في «التفكيكية» لدريدا أو «الكتابة في درجة الصفر» لبارت.
ليس صعباً أن يكون لحضارات الشمال والجنوب والغرب والشرق برنامج مشترك. فالاهتمامات واحدة لكن على درجات متفاوتة ونظام للأولويات متفاوت. فإذا اهتم الشمال بتلوث البيئة وبعيوب مجتمعات الوفرة، وبالمخدرات والشذوذ الجنسي والجريمة المنظمة وغياب المثل وتفشي العنصرية ومظاهر الرأسمالية.. فان الجنوب يهتم بالفقر والبطالة والتخلف والتعليم والإسكان والنظافة وكل الحاجات الأساسية التي استطاع الغرب توفيرها منذ وقت طويل. وإذا كان البشر يعيشون في عالم واحد، وكان العالم قرية واحدة فإنه يمكن صياغة مبادئ كوكبية واحدة. فالعدالة الاجتماعية لا تتحقق فقط في المجتمعات والدول بل أيضاً على مستوى العالم بين الشمال والجنوب، الشرق والغرب. فما يستهلكه الشمالي قدر ما يستهلكه الجنوبي عشرات المرات. وأقلية في الشمال لا تتجاوز 5% من مجموع سكان الأرض تملك وتتحكم في 95% من سكان العالم. ذلك سوء توزيع للثروات. فالعولمة ليست فقط اقتصاديات السوق وتصدير السلع، بل أيضاً توفير الخدمات على قدر متساو بين شعوب العالم. وإن ما يُنفَق على صناعات السلاح في الدول الرأسمالية يكفي لإشباع الحاجات الأساسية للشعوب التي ما تزال تحت خط الفقر.
إن التحول من «صراع الحضارات» القديم إلى «حوار الثقافات» الجديد ليس فقط على مستوى النظر، العلوم والفنون والآداب، ولكن أيضاً على مستوى العمل في صياغة برامج عمل مشتركة تسترد فيها الإنسانية وحدتَها، وتتكامل إمكانيتها، بحيث تتساوى كل أطراف الحوار وتتجه نحو هدف مشترك يحقق مصالح الجميع؛ بدايةً بالمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، ونهايةً بشعوب العالم، أطفالاً وشباباً ونساء وعجزةً، من المهمشين في الأرض، ولو على مستوى الصراخ والأنين.


*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة