السياسة في ألمانيا غير مثيرة عادة. فكل شيء في النظام الاتحادي الألماني دقيق التوازن والدعم للاتحاد الأوروبي والتأكيد على الائتلافات واتفاق الآراء.. ومحسوب لكي تبقى الحياة العامة مستقرة بقدر الإمكان. وهذا يجدي نفعاً إلى حد كبير، في ظل الظروف العادية، حتى إذا جعل الناس من الخارج يشعرون بالملل. لكن الجائحة حلت، و«كوفيد-19» قلَب البلاد رأساً على عقب بوسائل لم يتوقعها الخبراء قط. ومعدلات الإصابة ترتفع بشدة. والحكومة لديها ملايين الجرعات من اللقاح في وقت يريد الألمان بشدة الحصول عليها. وهناك فضائح فساد تطل برأسها في الحزب الحاكم، «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، فيما يشبه ثقوباً يتدفق منها الماء في سفينة تغرق. وفي الشهر السادس من الإغلاق، يختمر الاستياء وخيبة الأمل بينما يواجه الساسة بصعوبة مهمة العثور على خلف للمستشارة أنجيلا ميركل. 
وكانت الأمور لا تبدو بهذا السوء قبل عام. ففي وقت مبكر من الجائحة، حظيت ألمانيا بإشادة دولية لتعقّبها الدقيق للمخالطة وتنفيذ عمليات إغلاق مبكرة ودعمها السخي للشركات المتضررة. ولمع نموذج ألمانيا بكفاءتها الشديدة وعقلانيتها، خاصة عند مقارنتها مع استجابة إدارة ترامب الفوضوية للجائحة. لكن مع انتشار سلالات جديدة من الفيروس، ومع تحول تركيز السياسة إلى عملية تكيف مرنة وتوزيع سريع للقاحات، تعثرت ألمانيا في مساعيها. 
والآن، لم يتلق جرعة واحدة على الأقل من اللقاح إلا 14.6% من السكان مقابل 33.5% في الولايات المتحدة و46.7% في بريطانيا و61.3% في إسرائيل. وبعض القرارات التي اتخذتها السلطات الألمانية تحير العقل. فلقاح سترازينيكا البريطاني الإنتاج، وهو العنصر الأساسي في المسعى الأوروبي لإعطاء اللقاحات، تمت الموافقة عليه أولا للأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 65 عاماً، ثم أُقر للجميع، ثم تم سحبه، ثم أُعيد مرة أخرى، وأخيراً تمت الموافقة على إعطائه للأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً. وأبرز الضحايا السياسيين لهذه الفوضى هي المستشارة ميركل نفسها. وتجلى هذا على أوضح ما يكون في نهاية الشهر الماضي، حين اضطرت ميركل للاعتذار والتراجع عن القيود الجديدة لعطلة عيد الفصح التي أعلنتها قبل الاعتذار بنحو 34 ساعة فقط. 
لقد أصبحت ألمانيا بحاجة شديدة إلى استراتيجية جديدة؛ فعدد حالات الإصابة يرتفع، وبعض الألمان كانوا يعتزمون التوجه إلى المشاركة في حفلات كبيرة في أسبانيا، والقيود جرى تخفيفها وليس تشديدها. لكن مفاوضات ميركل التي استمرت 15 ساعة مع حكام الست عشرة ولاية تمخضت عن قيود بلا نفع في الممارسة. حتى الزعماء الذين وافقوا عليها أسقطوا بعض جوانبها بعد ساعات فحسب من إعلانها. ومن بين الحكام المتمردين «ارمين لاشيت»، الرئيس الجديد لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» الذي تنتمي إليه ميركل. لقد كان هذا نوع من التمرد السياسي العلني غير المسبوق في السياسة الألمانية.
وفشل ميركل في فرض النظام في صفوف حزبها جعلها تبدو ضعيفةً للغاية. ومعلوم منذ فترة طويلة أن ميركل تعتزم التنحي بعد انتخابات الخريف المقبل، لكنها الآن وصلت إلى تاريخ «انتهاء الصلاحية السياسية». فلم تعد ذاك العملاق السياسي الذي كانت عليه عام 2015 حين تغلبت على المعارضة السياسية في ترحيبها بنحو 1.2 مليون لاجئ ومهاجر في ألمانيا وأصبحت زعيمة بارزة للنظام الديمقراطي الليبرالي. والآن يتعين عليها أن تنفق الساعات لتتفاوض مع الحكام ثم تناشدهم على التلفزيون القومي في محاولة لجعلهم يقومون بعملهم. 
وهذه الإخفاقات، بالإضافة إلى تلقي عدد من أعضاء البرلمان رشى مقابل تعاقدات حكومية لأدوات الوقاية الشخصية، كل ذلك شوّه سمعة «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» باعتباره مثالا للكفاءة الصارمة. وحالياً أصبح الناخبون يميلون إلى النظر إلى حزب ميركل باعتباره جزءاً من المشكلة. وفي مقابلة في التلفزيون القومي، اضطرت ميركل الغاضبة إلى أن تذكّر حزبها بأن ليس لديه «حق تلقائي» في إدارة البلاد. 
لكن أداء مَن يخلف ميركل (وما يزال غير معروف) قد يكون أسوأ. فوزير الصحة يجد صعوبة في شرح سبب معاناة البلاد من العجز في الجرعات، بينما توصلت ألمانيا إلى واحد من أكثر الجرعات طلبا. ويجد الوزير صعوبة كذلك في تقديم أسباب تأخر البلاد الشديد في إعطاء الجرعات للسكان. والإجابة تتمثل، على ما يبدو، في غابة القيود البيروقراطية، بما في ذلك بطء التوسع في مراكز إعطاء اللقاحات والفشل في منع مراكز اللقاحات من إغلاق أبوابها في عطلة نهاية الأسبوع والعطلات الأخرى. 
وفي الوقت نفسه، اعتقد لاشيت، زعيم «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، لأسباب ما، أنه من الجيد محاولة تخفيف القيود الخاصة بـ«كوفيد-19»، رغم أن نحو نصف الألمان تقريباً يدعمون الإجراءات الأشد صرامة. وتغيّر موقفه منذئذ ليؤيد عملية مبهمة التعريف يطلق عليها «جسر الإغلاق». لكن هذه الزلات السياسية جعلت أعضاء حزبه يدعمون منافسه الأساسي ماركوس سودر حاكم ولاية بافاريا. 
وانهيار المحافظين في استطلاعات الرأي وأداؤهم القياسي الضعف في انتخابين إقليميين جعل من الممكن فجأة، فيما يبدو، ظهور ائتلافات قومية لم تكن متخيلة من قبل. لكن هذا يؤكد فيما يبدو أن الذي سيخلف ميركل في الخريف، بصرف النظر عن شخصيته، سينشغل كثيراً بمحاولة إطفاء حرائق السياسة الداخلية وإدارة ائتلافات غير متماسكة، وهذا سيمنعه من القيام بدور ميركل على الساحة الدولية وفي السياسة الألمانية. ولسوء الحظ، أظهرت الجائحة أن ألمانيا بحاجة إلى مستشار قوي ليجعل نظامها البيروقراطي يعمل. لكن البلاد لن تحصل على مثل هذا المستشار لفترة قادمة من الوقت. 

*صحفي مقيم في برلين 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»