لكل دولة قيم تنبع من تراثها وحضارتها، وتتجسّد على أرض الواقع من خلال مشاريع وتوجهات ومواقف، فلا تصعد أو تهبط مع الأمواج أو الموضات، والسياسة لديها تابعة للقيم ونابعة منها. وثمة دول تركب القيم الرائجة في عصر ما من دون إيمان حقيقي بها.

فإذا كان العصر عصر ثورات، استحالت هذه الدول «تشي جيفارا» بين الأمم، وإذا كان العصر عصر عولمة، صارت كأنها المتحدث الرسمي باسم «منظمة التجارة العالمية»، وإذا كان العصر عصر ديمقراطية، لم تعد تفرّق بينها وبين «مونتيسكيو»، وإذا كان العصر عصر الإسلام السياسي، تبنت آراء «أبو الأعلى المودودي»، وإذا كان الزمن الواحد تتنازع عليه اتجاهات شتى، كانت هي أيضاً كذلك، دولة الأشياء المجمّعة المتنافرة. ومن البدهي أنه كلما تضاءل دور المجتمع المدني ازداد دور الدولة، وهو واقع بعض الدول العربية والإسلامية، فالدولة العربية بمؤسساتها وأجهزتها حاضرة في الصغيرة والكبيرة، وفي أثناء هذا الحضور وخلاله تزرع قيمها، ابتداءً من المدرسة وانتهاءً بالجامعة، ومن الصحف إلى الإذاعات إلى القنوات التلفزيونية، وحتى ساحات مواقع التواصل الاجتماعي، وإن لم تكن مملوكة لها، فهي بالقوانين تسمح بمرور هذه القيم، وتضيِّق على مرور تلك القيم، فضلاً عن حضور الدولة القوي في حقول الثقافة والإبداع ورعاية الموهوبين. لتضحى في المحصّلة القيم التي يتبناها عامة الناس هي نفسها القيم التي تتبناها دولتهم، اللهم إلا الأفراد القلائل الذين «يبنون» أنفسهم بأنفسهم.

وهذه القيم لا تبقى في «الرأس» فحسب، وإنما تتحول إلى سلوك وأفعال، وترسم من ثم شخصية الإنسان ووجدانه. والآن يمكن تصوّر ما يحدث لشعب دولة ما إذا كانت دولتهم تتبنى «كوكتيلاً» من القيم، وكيف تصعد بهم فوق هذه الموجة، ثم فوق موجة أخرى، وخلال هذا الصعود والهبوط يغرق مَن يغرق، وينجو مَن ينجو، فلا يمكن تخيل أن مواطني أي بلد عربي لن يقعوا ضحية دعايات الإسلام السياسي –على سبيل المثال- إذا كانت تنطلق من بلدهم، مهما كان الغرض غير المعلن من تبني هذا المشروع، لأنه لا يمكن دعوة الشعب إلى اجتماع سري وإفهامه بأن الأمر مجرد تكتيك مرحلي، وأن عليهم ألا يتأثروا بما يحتويه الخطاب الرسمي، ولا بما يقال في إعلام الدولة.

وقل مثل ذلك في كافة السموم التي تصنعها بعض الدول، بقصد تقديمها إلى الآخرين، من قبيل التطرف، ومعاداة الحضارة الحديثة، من دون أن تحسب حساب تأثير ذلك السم على شعوبها في المقام الأول، وكما يقول المثل، فـ«طابخ السم آكله»، خصوصاً في المجتمعات التي تمتلئ بطونها أساساً بالأفكار الظلامية والعدمية والشعارات الفارغة، فتدخل تلك السموم في جسد المجتمع من دون مقاومة. وهنا تكمن المأساة التي تتسبب بها بعض الدول الانتهازية فاقدة الاعتبار والاحترام، فمن أجل تحقيق أهداف آنية وسريعة، قد تفرّط في أجيال من الناس.