لكل حاكم بطانة من الناس يقونه تقلبات الزمان ورفقة تكون له في وقت القيظ ظلاً ظليلاً، وساعة البرد دفئاً، وفي ضيقه فرجاً ومخرجاً وفي يأسه أملاً مشرقاً، وهو بالنسبة لهم، ذخرٌ وظهرٌ وسندٌ في السعة والضيق، وأذنٌ صاغيةٌ لما يجول في خواطرهم، وكنزٌ دفينٌ لأحاديث نفوسهم.
مع بعض هؤلاء نمضي لحظات ثمينة وفق قربهم من الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم رحمه الله، أخبرنا ذات مرة بأنه فاجأه أحدهم في قصره وقت الغداء بوفد كبير العدد دون سابق موعد وهو من ضمنهم، فأكرمت ضيافتهم، ثم غادروا إلى شأنهم.
أثناء هذا الحديث كان مرافق الوفد حاضراً، فسأله الشيخ حمدان لماذا لم تخبرني مسبقاً بقدوم ضيوفك؟! قال: فوجئت بهم ولم أكن مستعداً، فقلت في خاطري: ما ينقذني من هذه «الوهجة»، أي الورطة، غير حمدان طال عمرك.
الكرم بالإطعام، باب من أبواب الجنة ولو كان في قلب الكرم إسراف فلا يعد هنا إسرافاً مذموماً، وهو خلق الأولين منذ الطائي الذي أكرم ضيوفه بذبح أفضل إبله إلى زمن الإمام الزُّهْري، عالم الحديث الشهير الذي كان يستدين المال من أجل المساهمة في موائد إفطار الصائم في رمضان عبر الحارات والطرقات.
وفي كل موسم للحج، يلتقي بالخليفة مروان بن عبد الملك، لكي يسقط عنه ديونه من إطعام الطعام في شهر الصيام، هل سمعتم عن كريم يستدين من أجل إكرام الصائمين وخليفة المسلمين يتولى سداد ديونه، ولكن دون أن يأمره بالتوقف عن هذا الكرم، فبين الشيخ حمدان والخليفة مروان نسب في ذات المقام الرفيع والكرم المستدام.
كان الشيخ حمدان لرفاقه، الناصح الأمين، دار حديث حول فوائد الأطعمة لدوام حياة الإنسان الصحية، فقد ذكر حمدان بعض فوائد عصائر الأوراق الخضراء، وكان أمراً غريباً لأننا تعودنا على عصائر الفواكه في الغالب الأعم، وانبرى أحد الرفاق بالقول: طويل العمر أنا «مول» ما آكل اللحم !
فرد عليه الشيخ حمدان:« إنت غلطان لأن الجسم بحاجة ماسة إليه لتكوين العضلات وإلا أصابه الترهل والهرم قبل أوانه». لم يكن الشيخ حمدان، رحمه الله، طبيباً بالمعنى المتداول لمفهوم الطب، ولكنه كان حكيماً في تناوله لقضايا الصحة العامة، ومسؤوليته عن هذا القطاع أهّلته للتصدر لمثل تلك المسائل في أحاديثه الجانبية مع جلسائه.
مجلسه قلما يخلو من وفد رسمي قادم أو مودع في مختلف القطاعات، وبعد انصراف الوفود كان يعرفهم لرفاقه، حتى لا يشعروا بأن ما في هذه اللقاءات شأن خاص به، ومن ذلك عندما زاره وفد رسمي مشاركاً في أحد المؤتمرات الطبية بمركز المعارض وكان من بينهم اختصاصي في أمراض القلب، إلا أن الشيخ حمدان وضح لنا بأن هذا الطبيب يتميز بأنه متخصص في الأوعية الدموية الدقيقة في القلب وهو من التخصصات النادرة في هذا الوقت.
لا يكتم المعرفة النافعة عن الحضور بين يديه، فهو حريص على إيصال كل جديد إليهم، وفي علم الجينات له باع، عندما أُثير نقاش حول تقدم العلوم الطبية في مجال الشيخوخة، كان بسمة أمل لمن يتحسس من ذلك، فأرشدنا إلى توفر حقنة خاصة لتجديد عمر الجينات في جسم الإنسان من سبع سنوات إلى العشرينيات من العمر. فالصحة عنده هي الثروة الحقيقية للإنسان وليس المال. كما يقال في الغرب «health is wealth».