قبل نحو تسعين عاماً، وفي ذات السنة التي أعلن فيها عن قيام المملكة العربية السعودية، 1932م، كان واحد من بيوتات عنيزة، يستقبل مولوداً، لم يكن أحدٌ من الموجودين حينها، ليدرك كم سيكون له من شأن في دنيا الناس، وماذا سيخلف من أثر في عالمهم.
حينها، كانت عنيزة، بالقصيم، بلدة وادعة، تكتنفها مزارع النخيل من أطرافها، ويعيش أهلها، في بساطة وسماحة، ورقة تناقض قسوة صيفها الحارق، وزمهرير شتائها الذي ينفذ برده في العظام.
في سن الخامسة، كان على «عبدالله النعيم» أن يلتحق بكُتّاب الشيخ عبدالعزيز الصالح الدامغ، أحد أشهر المعلمين تلك الأيام، قبل التعليم النظامي. لكن ما يصنع طفل في الخامسة بالكتّاب؟ كان يعطى «اللوح» الذي يرقم فيه الطلاب الحروف والأرقام وقصار السور، فيلقي به جانباً، لذا كان على عائلته الانتظار عاماً، ريثما تفتح المدرسة الحكومية الأولى أبوابها بعد عام. انضم الفتى عبدالله إلى المدرسة الوليدة، وتلقى تعليمه الأولي بها حتى الصف الخامس الابتدائي، إذ لم يكن ثمة صف سادس، بسبب قلة عدد التلاميذ!
انصرف النعيم إلى حلقات العلم، ليدرس العلوم الشرعية، والمواريث، واللغة العربية، على عالم عنيزة الشهير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، والشيخ عبدالرزاق عفيفي، وغيرهما من العلماء الذين كانت عنيزة تحفل بهم، ثم عمل في الصرافة، قبل أن يفتتح لنفسه دكاناً لبيع المواد الغذائية.
في الثامنة عشرة من عمره، ودّع الفتى مسقط رأسه، وشد الرحال إلى الظهران، عاملاً في محطة بنزين، ثم في أرامكو، قبل أن يعود إلى عنيزة، ليتزوج، ويعمل مدرساً، ثم وكيلاً لثانوية عنيزة، ثم وكيلاً لإحدى مدارس جدة.
ثم انتقل إلى الرياض، وفي ذهنه أن يتعلم، حتى يبلغ أقصى ما يمكنه بلوغه من الشهادات العلمية.
لكن البلاد، في تلك الأيام، كانت في بدايات نهضتها التنموية، وكانت في حاجة إلى كل من يمكن الاعتماد عليهم، في تسيير شؤون الإدارات الحكومية المختلفة، فوجد النعيم نفسه، مديراً لمعهد المعلمين بالرياض، ثم مديراً عاماً لتعليم مدينة الرياض، وابن عنيزة الشاب، كان موظفاً كفؤاً، يقول للمتاعب: تعالي! فأنا لك! ويجابهها بما أوتي من قوة، وما وُهب من جَلَد.
وكان في الأحساء معهد علمي، قررت وزارة المعارف، أن تغلقه، وتجعله مدرسة ثانوية، فالتحق النعيم، وهو في منصبه ذلك، بتلك الثانوية في الأحساء، منتسباً، حتى نال الشهادة الثانوية، وكان بوسعه، أن يلتحق بالثانوية في الرياض، أو عنيزة، لكن نزاهته أبت عليه أن ينال الشهادة من جهة تقع تحت نفوذه!
كان الدكتور عبدالعزيز الخويطر، وكيلاً لجامعة الملك سعود، وطلب من عبدالله النعيم أن يترك إدارة التعليم، ويعمل أميناً عاماً مساعداً بالجامعة، فصار النعيم يعمل بالجامعة بعد الظهر، إضافة لعمله في إدارة التعليم صباحاً! الجامعة متمسكة به، ووزارة المعارف لا تود أن تتخلى عنه!
لكن العاقبة كانت للجامعة، بعد عام من العمل المزدوج، وصارت جامعة الملك سعود، هي بيت الأستاذ عبدالله النعيم، أمضى بها زمناً من الكدح والعمل الذي لا ينتهي، وحصل على البكالوريوس منها، قبل أن يطلب السفر إلى بريطانيا، لمواصلة تعليمه العالي.
كانت الرياض، في السبعينات الميلادية، تمر بمرحلة من أصعب مراحل العمر، فهي تنمو نمواً سريعاً في ظل طفرة مالية، وتحتاج إلى كثير من التخطيط، ففيها كل يوم مخطط جديد، يحتاج إلى الإمداد بالخدمات الحكومية، من تعبيد، وماء، وكهرباء، وصرف صحي، وكانت منح الأراضي كثيرة في تلك الأيام. والعاصمة السعودية تعيش صراعاً بين ماض قديم، وحاضر جديد، جاء على حين غرّة. أما النظافة، فقد كانت في حالة يرثى لها، حتى إن بعض الشوارع، كانت مغلقة بسبب تراكم النفايات، ولم يكن السكان واعين بأنظمة البناء، وكان جهاز أمانة المدينة مهلهلاً، ولم يكن في المدينة كلها إلا ست حدائق فقط، وفي هذا الوضع عُرضت أمانة الرياض على النعيم. كان التحدي ضخماً أمام صاحبنا، وقد قبله الرجل، وعمل وفقه بجدارة، وأمانة، ونزاهة.
خرج النعيم من العمل الحكومي، نزيهاً نظيف اليد، لم يستثمر نفوذه في خدمة مصالحه الشخصية، ولا ادخر جهداً في خدمة العاصمة بكل ما يملك، من رؤية، وتفكير ثاقب، وبمن كان معه من الشباب المخلص.
أصر النعيم على التقاعد، وابتعد عن الأضواء، فانصرف، إلى حياته الخاصة، وأعماله الخيرية، ممضياً وقته، مع عائلته، وأصدقائه، ومعارفه الكثيرين، إضافة إلى نشاطاته الاجتماعية، التي تملأ عليه زمنه، وتفيده وتنفع الناس، فهو إنسان لم يألف الفراغ، ولم يشأ، في شيخوخته، أن يسمح للفراغ بالتسلل إلى يومه.
بجهود من النعيم، اجتمع عدد من رجال الأعمال بالرياض، وجمعوا أكثر من أربعين مليون ريال، أسسوا بها مركزاً الأمير سلمان الاجتماعي، صار مركز الملك سلمان لاحقاً، كما كان وراء إنشاء مكتبة الملك فهد الوطنية، ورأس مجلس أمنائها لفترات متطاولة، وعدد آخر من منظمات المجتمع المدني، باذلاً جاهه لخدمة الناس، ونفعهم، ومسخراً علاقاته ومعارفه، من أجل تأسيس أعمال تفيد المجتمع، وترفع من مستوى مؤسساته غير الربحية.
ولقد أوتي الشيخ عبدالله العلي النعيم، حضوراً جميلاً، حين يتحدث، على قلة ظهوره في وسائل الإعلام المرئي، وقلماً ظريفاً رشيقاً حين يكتب، وقد كتب معاليه طرفاً من سيرته الذاتية، تحت عنوان «بتوقيعي، حكايات من بقايا السيرة»، تناول فيها نشأته، وركز على عمله أميناً لمدينة الرياض.
هذا هو أبو علي، لوحةٌ وطنيةٌ في إنسان، ومسيرةٌ عاطرة، باذخة، حافلة بالسعي في خدمة الوطن، وغيمةٌ جوابةٌ، حيث حلّت أمطرت، فأغاثت، وأبهجت، وأبدعت، وأمتعت، وأثمرت فأينعت.

* سفير المملكة في الإمارات.