قبل ربع قرن كانت العبارة الأكثر ترديداً في الأدبيات السياسية والصحافة والثقافة وعلم الاجتماع أيضاً هي «العالم صار قرية صغيرة» Global Village لكن من يمعن النظر في ما يجري الآن، وفي ظل ثورة الاتصالات الرهيبة، لن يجد صعوبة في إدراك أن هذه القرية المتخيلة قد تصاغرت وانكمشت حتى صارت غرفة واحدة.
ومع تدفق المعلومات والصور، بشكل لم يسبق له مثيل، صار من الضروري أن يهتم الناس بأمثالهم في آخر الأرض، من حيث المعتقدات والقيم وطرائق العيش، أكثر من انشغالهم بالطبيعة والعمران. لهذا أعيد ترتيب أوراق زيارة أي بلد جديد عليَّ، وأنا أمضي في الشارع النابت من المطار أو الذاهب إليه، نحو أول مكان لي، ليكون أول ما يهز قلبي فيها ليست فقط بناياتها إنْ كانت شاهقة متبلدة، أو خفيضة حافلة بفن لا تخطئه عين، ولا كل ما يصادفني من أنواع السيارات وواجهات المحلات، إنما أكثر وجوه البشر، التي أنجذب إليها، لأن أصحابها صانعو كل ما حولي.
والوجوه هذه لا يمكن مطالعتها في خفة مثل البنايات المتشابهة، إنما يجب على أي ناظر إليها أن يتأملها جيداً، ففي تجاعيدها الهينة التي لا تكاد ترى، أو تلك المحفورة كفجاج الترع والجسور في قلب أرض مطروحة منبسطة، يكون كل شيء، أو المنحوتة في جبال شماء، آثار المكان، وغلبة الزمان، ووجع التجربة. فكل تجربة هي وجع، مهما اعتقد متعجلون أنها مريحة، أو ضاجة بفرح عابر.
إنها وجوه البشر، ففوق معالمها وملامحها كل الخرائط، التي لا يمكن لمرتحل هاو أو متمرس أن يتجنبها، إن أراد تحصيل معرفة حقيقية، فالعلم ليس فقط في بطون الكتب، إنما أيضاً يقيم فوق جبين الناس وفي عيونهم، ويتهادى في سكناتهم وحركاتهم، الموزعة على تجارب متعددة، يحملونها فوق ظهورهم.
لهذا فإن المسافر الواعي لا تشغله المتعة العابرة، ولا يقيم حوله وهو هناك في غربته الطارئة المؤقتة شرنقة من الخوف والتردد والتبلد والاستغناء الزائف، إنما يجدها فرصة للتأمل والفهم، وهو يعاين الأماكن التي تمضي فيها حياة من سافر إليهم، ليلتقط في ذكاء تأثيرها عليهم.
فلا يمكن في عصر الصورة وزمن المواطن الصحفي أن يأتي إليك من يصف المشاهد التي يراها، متكئاً على أن الأغلبية تتوسل بالكلمة المكتوبة كي ترى، فالصور صارت على قارعة الطريق، والوصف لم يعد له شأن كبير في عصر الجماهير الغفيرة، وأي شيء عن أولئك الذين يقطنون وراء البحار لم يعد بوسعه أن يلفت انتباه الذين رأوا كل شيء في خرائط «جوجل» ومعلوماتها، وأفلام قصيرة مصورة من هنا وهناك، ومعلومات وصور وأفلام وشروح لا تتوقف على مواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، تجعل السؤال يكبر في عين كل لبيب: ما الذي تبقى لوصفه بعد أن أصبح في وسع كل أحد أن يجوب المدن كلها وهو جالس في مكانه. عليه فقط أن يحرك إصبعه فوق أزرة هاتفه الجوال أو حاسوبه النقال، أو حتى يجلس ساعات قليلة أمام قنوات متلفزة مخصصة كي يكون بوسعه تعرية العالم أو شرح طبيعته، دون أن يعني هذا بالضروري فهم طبائع البشر.
لم يعد أمام من يريد أن نقرب العالم من آذان الناس وعيونهم، سوى اختيار زاوية، قد تكون ضيقة، أو يعتقد المتعجلون أنها هامشية عابرة، لكنها في كل الأحوال تضيف الكثير إلى الصورة التي تترى بلا تعليق أو تحليل محايد، حتى صارت على قارعات الطرق، مبتذلة، لا يتوقف عندها أحد، فالكل يظن أنها صارت سقط متاع. هذه الزاوية يجب أن تكون هي «الإنسان»، فهو الأكثر جدارة باهتمام في الغرفة الصغيرة التي تسمى كوكب الأرض، وهذا يعني بكل بساطة أن يكون البشر قبل الحجر.