نتذكر منذ ثلاث سنوات ذلك التصرف البطولي لمهاجر غير شرعي من مالي عندما أنقذ طفلاً من السقوط من أعلى شرفة في الطابق الرابع لبناية في باريس، وتبع ذلك تكريم رسمي وشعبي له في فرنسا، مشفوعاً بقرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتسوية أوراقه، تمهيداً لمنحه الجنسية الفرنسية خلال استقباله في قصر الأليزيه وقرار ضمه إلى صفوف فرق الإطفاء الفرنسي. نعم، إنها قصة من قصص المهاجرين الذين يمكن للأستاذ في الجامعة أن يدرّسها في مادة الهجرة والعلاقات الدولية في إشكالية يمكن صياغتها على الشكل التالي: هل هناك تغييرات إيجابية في نظرة الغرب للمهاجرين؟ إنها إشكالية صعبة ولكن الحقيقة تقول إن المهاجرين، وبالأخص غير الشرعيين منهم والذين قدموا في السنين الأخيرة إلى الدول الأوروبية، تنتظرهم أوقات صعبة مع دول استقبالهم، وبالضبط مع الأحزاب السياسية التي تجعل الموقف من المهاجرين مصدراً لجمع الأصوات في الانتخابات.
وكما قلنا مراراً، فإن مشكلة الهجرة من المشاكل الأوروبية المستعصية، إذ تتداخل فيها عوامل السيادة والاقتصاد والاندماج واللجوء السياسي والانتخابات وبروز الأحزاب اليمينية وكراهة الأجانب.. إلخ. وكل من أوتي الحكمة ينادي بـ«أنسنة» المشكلة عن طريق بعض الحلول التي تفيد الجميع، كضرورة عدم جعل المهاجرين رهائن لسياسة أمنية وسياسة لمحاربة الإسلاموية تم تبنيها في حوض المتوسط، وكضرورة عدم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وذلك بفضل دمقرطة التنقل عبر الحدود لأكبر عدد ممكن، وهذا مطلب يلح عليه شباب الضفة الجنوبية الذين يسعون لتحقيق حرية التنقل، كما تستدعي هذه السياسة إصلاح سياسة التأشيرات لأن التشديد فيها يخلق مظاهر الاحتيال عليها. وتُرصد أموال طائلة لمحاربة الدخول السري لدول البحر الأبيض المتوسط، في حين أن هذا المشكل لا يطال سوى 10 في المائة من الهجرة غير الشرعية التي تنجم في أغلبها عن تمديد دخول شرعي إلى إقامة غير شرعية.
وتشير الأبحاث إلى أنه كلما كانت الحدود مفتوحة سهُل مرور المهاجرين، وكلّما أصبحت التخوم مغلقة، كثر التهريب وأضحى المهاجرون يستقرون بصفة عشوائية حينما تنقصهم الوثائق اللازمة نتيجة عدم القدرة على المغادرة أو العودة فيما بعد. 
أقول هذا الكلام وأنا أرى الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها المهاجرون من أصول إسلامية في بلاد المهجر، وبالضبط مع قصة العمالي صادق خان الذي استطاع أن يفوز بولاية ثانية على رأس العاصمة البريطانية. وخان هو ابن لمهاجرين باكستانيين، عاش حياة صعبة في سكن اجتماعي، ويبلغ من العمر خمسين عاماً. وكان هذا المحامي قد فاز برئاسة بلدية لندن للمرة الأولى في 2016 وأصبح أول مسلم على رأس عاصمة غربية.
يقول صادق خان بعد إعلان فوزه: «نشأت في سكن اجتماعي صبياً من الطبقة العاملة.. أنا ابن مهاجرين، لكني الآن رئيس بلدية لندن. أنا من سكان لندن. المدينة في دمي، لكني أيضاً رجل إنجليزي وبريطاني فخور بتمثيل العاصمة الرائعة للأمة». ولدى ترشحه تعهّد خان بـ«بناء الجسور بين المجموعات السكانية» خلال سنوات قليلة من رئاسته بلدية لندن. ويلاحظ المتتبعون أن من بين أسباب تصويت البريطانيين عليه، تمتعه بذكاء كبير، وكونه رجلاً عملياً يحب العيش المشترك بين أطياف المجتمع البريطاني المختلفة، ويفتخر بأصوله الإسلامية الباكستانية، وبذلك استطاع أن يصنع لنفسه سمعة رجل يؤمن بالمبادئ السامية لأوروبا، معارضاً سياسة البريكست الذي كان يروج له رئيس الوزراء المحافظ بوريس جونسون، والذي كان رئيساً للبلدية قبله. ثم زد على ذلك أن «صادق خان» خلال حملته الانتخابية الأخيرة تبنى شعار «وظائف وظائف وظائف» لتنشيط اقتصاد مدينة واجهت الوباء وبريكست، اللذين شكّلا ضربةً قاسية لقطاعها المالي القوي.

أثار هذا الرجل، والذي يجسد ما يمكن أن تساهم به الهجرة في دول المهجر، صخباً عالياً على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام البريطانية والدولية، موازاةً مع مناوشاته مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي هاجمه شخصياً. وقال صادق خان في مقابلة مع وكالة فرانس برس قبل أسبوع من الانتخابات: «وصفني مرة.. بالفاشل. أحدنا فقط فاشل، هو وليس أنا». عيدكم مبارك سعيد.