لا يقوم التعايش بين الناس فحسب، إنما أيضاً، وربما بشكل أكثر ظهوراً، في العمران، الذي يحمل المدن على أكتافه، فيكون بها، وتكون به. هذه مسألة يمكن الوقوف عليها في مدن كثيرة، في الشرق والغرب، لكني سأختار هنا مدينتين، عربية وغربية، لأبرهن على ذلك.
المدينة الأولى هي «إيرفورت الألمانية»، التي اكتشفت في أول جولة لي بها أن كثيرًا من المتاجر والمعارض كانت بيوتًا وقصورًا قديمة بقيت على هيئتها المعمارية البديعة، كشاهد على عراقة المكان، وجاء إنسان زماننا ليوظفها على النحو الذي يحقق منافعه. وحتى الشوارع كانت تتعايش على أرضها آثار القرون، فهي ليست كتلك التي رأيتها في مدن حللت بها، حيث الأسفلت الذي يتم تجديده بعد أن يتآكل تحت إطارات السيارات، وبفعل تقلب الطقس بين برد وحر، إنما كانت من البازلت، الذي كلما تقادم تجدد من تلقاء نفسه، وكلما تآكل انجلى وازدهى.
في كل مكان يجري هذا التعايش بين الذي ذهب بعيدًا في الزمن وذلك الحاضر الوافر بين أيدي الناس، إلا من جامعة قديمة تركوها حافلة بجلالها الغابر، إنها تلك التي درس فيها مارتن لوثر، الرجل الذي تزعم حركة الإصلاح في المسيحية، وعلى كفيه ولدت البروتسانتية. درت حول جدرانها الكالحة، التي تريد أن تنقض، لولا الترميم المستمر لجنباتها، من دون المساس بهيئتها التي ظهرت عليها في الزمان الأول.
راقت لي «إيرفورت» بمبانيها العتيقة، وشوارعها التي ما تزال مسكونة بروح الاشتراكية، من بساطة وتعاون، وكذلك احتياج، وكثير من القهر الذي كان يمارسه من حكموا ألمانيا الشرقية، لكنهم ذهبوا، وبقيت البساطة تعانق الحرية في هذه المدينة الطيب أهلها. هكذا لمست حياتهم، ولو من بعيد، كلما كانت تجري بيني وبين أحد منهم محادثة أو معاملة في متجر أو مقهى أو مطعم.
أما المدينة الثانية فهي «مكناس» في المغرب، الذي أتى لي فيها التاريخ إلى الحاضر، مثلها مثل أحياء قطعناها ذهابًا وإيابًا في مصر الفاطمية والأيوبية والمملوكية وما قبل هذا وبعده. ولأن نوع العمران والمعمار يُكسب قاطنيه سمات وقسمات نابعة منه، بدا لنا الناس في الشارع، رغم ارتدائهم ملابس من زماننا، يمضون في هدوء، كأنهم لا يريدون إيقاظ الموتى الذين حلوا متعاقبين في هذا المكان على مدار القرون التي ذهبت.
بين نقاش ونزهة مرت الأيام سريعًا، وكان أجمل ما فيها هو هذه السهرة التي قضيناها في بيت بمكناس يعود إلى أربعة قرون خلت تقريبًا، أثناء رحلة الرجوع، فالجلوس كان على بسط وخلف الظهور حاشيات لينة، والطعام قدم لنا في خوان، ومن قاموا على خدمتنا كانوا يرتدون لباسًا ينتمي إلى زمن بناء هذا البيت الأثري. وبعد العشاء، بدأت حفلة موسيقية، لا يمكن نسيانها، حيث صدحت مطربة ذات صوت حسن بموشحات أندلسية، وحين طلبنا أراجيل، جاءتنا على هيئتها القديمة، فبدا كل شيء قديمًا ما عدانا نحن، بلباسنا الحديث، ورؤوسنا الحاسرة، حتى إنني ملت على مضيفنا، وكان محافظ مكناس، وقلت له: نحن هنا النشاز الوحيد. وانفجرنا ضاحكين، فقال: لو تنبهنا لأعرناكم لباسًا قديما مثل كل من هنا، حتى نعيش في التاريخ.
تذكرت، وأنا أنهض في نهاية السهرة، تلك العبارة التي قرأتها في دراسات عن التحديث: «القديم لا يموت كله، وليس كل القديم شرا»، وهي صادقة ليست فقط على كل ما ورثه البشر من أسباب توزعهم بين المحبة والكراهية، وبين الوئام والحرب، إنما أيضاً على الأماكن، سواء راقت لنا أم لم ترق.