مصر بوضعها الجغرافي السياسي مركز لدوائر ثلاث، كما حددها عبد الناصر في «فلسفة الثورة»، وكما عبّر عن ذلك مالك بن نبي في «فكرة الآسيوية الأفريقية». وهي تصور لا خلاف عليه بين مختلف القوى السياسية المصرية منذ ثورة 23 يوليو 1952. فمصر مركز لها محيطان: المحيط العربي، والمحيط الأفريقي والآسيوي. لذلك أنشأت مصر «منظمة تضامن شعوب أفريقيا وآسيا»، وساهمت في إنشاء منظمة «المؤتمر الإسلامي» التي تضم كل الدول الإسلامية. ولا تناقض بين هذه الدوائر الثلاث. 
مصر هي الوطن الذي ارتبط به المصريون منذ أقدم العصور. وهي من أقدم الحضارات البشرية. فسيناء هي المدخل الشرقي لمصر كما لاحظ حامد عمار وجمال حمدان من قبل. تأتيها الغزوات من الشمال الشرقي (العرب)، وتتبادل ثقافياً وتجارياً مع الشمال (اليونان والرومان)، ومع الجنوب (السودان والحبشة، أي «بلاد بنط»). وكليوباترا من الشمال في الإسكندرية، وحتشبسوت من الجنوب في أسيوط، وحمامات فرعون في سيناء، والإله آمون في الغرب بواحة سيوة.
وعزل مصر عن محيطيها قاتل لها، وتهميشها قضاء على دورها. وقد كان هذا هو هدف الاستعمار منذ هزيمة محمد علي وتحديد جيش مصر ثم ثورة عرابي وهزيمة العرابيين وتكرار نفس المطلب، ثم عدوان 1956 عقاباً لها على مساندة الجزائر ومعاداة الغرب ورغبتها في توحيد العرب. وربما كان الهدف أخيراً هو إفقاد مصر دورها التقليدي لغيرها مما يقضي على دور القلب بالنسبة لضخ الدم في الأعضاء. 
إن قوة مصر بمدى تحمل مسؤولياتها في الدوائر الثلاث، وقوة الدوائر الثلاث بمدى انجذابها حول مركزها في مصر وإلا اتجهت إلى الغرب أو إلى الشرق. إن دور مصر في محيطها العربي الإسلامي مثل دور ألمانيا في أوروبا، ودور أميركا عبر الأطلنطي.. فهي ميزان ثقل في المنطقة. لذلك كانت سياستها باستمرار، الحياد الإيجابي، وعدم الانحياز، أي «لا شرقية ولا غربية» كما عبّر القرآن الكريم. 
تجسد مصرُ الوطنيةَ والعروبةَ والإسلامَ كثقافات متداخلة: حب الوطن، واللسان العربي، والثقافة الإسلامية.. وهي السمة الغالبة على الشمال الأفريقي كله، الجناح الغربي للعالم العربي. فالإسلام هو ثقافة الوطن وهوية الشعب. لذلك انتشرت دعوة الأفغاني في مصر والمغرب العربي لتوحيده بين الوطنية والعروبة والإسلام. وكان من تلاميذه علال الفاسي مؤسس «حزب الاستقلال» المغربي. ولم يغب هذا التيار عن الشام في شخص «شكيب أرسلان»، واستمر في مصر والشام عند محمد عبده ورشيد رضا. ومن الحركات الإصلاحية الحديثة خرجت معظم حركات التحرر الوطني في مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب واليمن والعراق وسوريا ولبنان والسودان. 
لم يحدث تساؤل حول القومية والإسلام إلا في بلاد الشام لقربها من تركيا وكرد فعل على القومية الطورانية. وخرجت حركة القوميين العرب على نفس نمط «تركيا الفتاة» وحزب «الاتحاد والترقي»، مما سبب خلافاً في الرأي والاتجاه السياسي بين الحركتين الإسلامية والقومية، وقبل أن تعقد سلسلة الحوارات بينهما بعد هزيمة 1967. فالقومية ظاهرة شامية، والإسلام الوطني ظاهرة مصرية. وانتشرت الظاهرة الشامية في العراق والخليج، بينما انتشرت الظاهرة المصرية في المغرب العربي والسودان وموريتانيا واليمن وشبه الجزيرة العربية. ولقد قامت مصر بدورها في تدعيم حركات التحرر الوطني في المغرب العربي، خاصة تونس والجزائر والمغرب، وفي اليمن. كما حملت لواء تعليم اللغة العربية وتعريب الجزائر. كما تخرج منها معظم الحركات الإصلاحية وروافدها في العالم العربي منذ الأفغاني. ومن أجل الشام جمع الكواكبي بين العروبة والإسلام، وجعل ميشيل عفلق الإسلامَ ثقافة العرب والعروبةَ جسد الإسلام وحامله.


أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة