يقف الاتحاد الأوروبي حالياً على شفا تحديات استراتيجية كبرى قد تهدد بقاءه واستمراره كأكبر اتحاد بين دول مستقلة على الكرة الأرضية في الوقت الحالي. والمعلوم أن ذلك الاتحاد كان وليد رغبة بإنهاء الحروب الدموية بين الدول الأوروبية، ولذلك قامت بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولكسمبورج وهولندا في عام 1950 باتخاذ الخطوة الأولى نحو وضع حجر الأساس للاتحاد الأوروبي، وذلك بإنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، إيماناً منهم بأن الاقتصاد هو أساس الوحدة والموجه الرئيسي للسياسة. 

وبالرغم من تصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، إلا أن الرغبة في الاندماج والوحدة لم تتوقف، وجاء عام 1957 ليتم إعلان التوقيع على معاهدة روما القاضية بإنشاء المجتمع الاقتصادي الأوروبي، ثم جاء عام 1993 ليتم تدشين المواطنة الأوروبية من خلال معاهدة ماستريخت، والتي أرست أيضاً الدعائم الثلاث لما يعرف الآن بالاتحاد الأوروبي، وهي: المجتمعات الأوروبية، التي ركزت على السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ومفوضية السياسة الخارجية والأمنية، وأجهزة التعاون في مجال الشرطة والقضاء ومكافحة الجريمة. وأخيراً، في عام 2009 تم التوقيع على معاهدة لشبونة، التي قامت بتوحيد الدعائم الثلاث المذكورة في هيكل قانوني واحد هو الاتحاد الأوروبي الحالي، والذي أصبح يضم 27 دولة تضم ما يناهز 447 مليون مواطن يعيشون على ما يزيد قليلاً على 4 ملايين كيلو متر مربع.
ويهدف الاتحاد الأوروبي إلى ترويج السلام بين الدول الأعضاء، وتعزيز حياة الرفاهية بين شعوبه، وحرية تنقل الأفراد والسلع ورأس المال وتعزيز الحرية والأمن والعدالة مع احترام الثقافات واللغات المختلفة للدول الأعضاء، ودعم حماية البيئة. ولكن قبل أيام قليلة انطلقت فعاليات مؤتمر «مستقبل أوروبا»، والذي يهدف إلى استشارة المواطنين الأوروبيين حول مستقبل الاتحاد في ظل التحديات التي تواجه دوله. ومن المتوقع الإعلان عن نتائج تلك الحوارات الوطنية في ربيع 2022. وبالرغم من أن محاولة استشارة المواطنين الأوروبيين قد باءت بالفشل مرتين سابقتين، 2002 و2018، إلا أن الأمل ما زال يحدو قادة الاتحاد الأوروبي في الخروج بإطار عام يسمح أولاً باستمرار كيان الاتحاد، وثانياً بتطويره حسب توقعات وتطلعات المواطن الأوروبي. 
وتتعدد التحديات الاستراتيجية، التي تهدد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي سواء منفردة أو تحت مظلة الاتحاد. وتأتي جائحة فيروس كورونا المستجد، كوفيد- 19 في مقدمتها، والتي كشفت عن خلل خطير في قطاع الخدمات الصحية داخل العديد من الدول الأعضاء وفي مقدمتها أسبانيا وإيطاليا وفرنسا. ويتجاوز ذلك الخلل قدرة المنشآت الصحية في تلك الدول على استيعاب الأعداد المتزايدة للمصابين بالفيروس خلال موجات هجومه المتتالية، إلى الخلل الواضح في وضع السياسات الاستباقية، واستشراف المخاطر الصحية واتخاذ القرارات المتناغمة والموحدة لحماية شعوب الدول الأعضاء عندما بدأ الفيروس في الانتشار من الصين في أواخر 2019، ثم تأتي التبعات الاقتصادية والسياسية والتجارية جراء انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وما ترتب على ذلك من مشاكل برزت أخطرها في النزاع حول صيد الأسماك بين فرنسا وبريطانيا وتحديداً لدى جزيرة «جيرسي»، التي تتبع الأخيرة. أضف إلى ذلك التوتر المتصاعد بين اليونان، العضو في الاتحاد الأوروبي، وتركيا المرشحة للانضمام للاتحاد منذ عام 1959، بجانب تحسب العديد من دول الاتحاد للمخاطر القادمة من روسيا وأخيراً خطر الهجرة غير الشرعية لأوروبا وخاصة من أفريقيا. وبالرغم من تلك التحديات الاستراتيجية الخطيرة، ما زال قادة الاتحاد يأملون في وضع خريطة طريق جديدة لمستقبل أوروبا تتجاوز تلك التحديات، وتعد بلدانهم لمستقبل أفضل. 

 

* باحث إماراتي