بحكم العادة وارتباطي الوثيق بتقاليد ورثتها عن أجدادي العرب، أحنُّ إلى شرب فنجان قهوة مشبع بطعم الهيل، ومعه أتحلّى ببضع حبات من ثمار التمر. وهذان رمزان مهمان من رموز الكرم العربي حين نريد استقبال ضيف أياً يكن، سواء من الأقرباء أو حتى ممن لا تربطنا بهم صلة رحم ودم.
حكاية القهوة العربية راسخة ومتجذرة في المجتمعات العربية البدوية بالأساس، ثم انتقلت إلى المجتمعات الحضرية، وتكاد لا تخلو مناسباتنا منها، فهي موجودة دائماً، تُعمل في البيت، ومعها تَحضرُ جميع طقوس إعدادها، بدءاً من شراء البن والهيل الجيدين، إلى تحميص البن ومن ثم طحنه، وصولاً إلى غليه مع مقدار من الماء، ثم إضافة الهيل إليها بعد نضج الحبات. لا يهم إن كانت القهوة شقراء أم سمراء، مع زعفران أو من دونه. المهم وجودها في بيوتنا، وتقديمها للضيوف كما يقتضي الواجب.
صحيح أن المدنيّة غيرت قليلاً في تلك الطقوس، لكنها لم تتمكن من إلغاء القهوة، ولم تستطع القضاء على محبة الناس لها، وإن أبناء جيل الشباب – في أغلبيته – لا يدركون المعاني المرتبطة بإعداد القهوة، ولا يعرفون طقوس تقديمها، كما يجهلون الحكمة من إمساك «المقهوي» دلة القهوة بقبضته اليسرى فيما يحمل الفنجان بيده اليمنى. وهو واقف يصبّ ثلث الفنجان فقط لضيفه، فإن زاد على ذلك اعتبُر في الأمر إهانة، وإن شرب الأخير الفنجان وأعاده من دون أن يهزه فعلى المقهوي أن يصب له ثانية.
وعادة ما يشرب المضيف فنجاناً قبل ضيفه ليثبت خلوها من أي مادة يمكن أن تسبب الأذى، وهو ما أطلقت عليه العرب «فنجان الهيف»، ويليه بواحد آخر اسمه «فنجان الضيف» حباً وكرامة، ثم يسكب للضيف «فنجان الكيف»، ويتبعه «فنجان السيف» الذي يعتبر بمثابة إعلان الضيف أنه سيكون مع مضيفه في الضراء.
خلال أيام رمضان افتقدت طعم القهوة العربية الفاخر، فهربت إلى مكتبتي باحثاً في أرففها عن كتاب يعوضني هذا الحرمان، فأواسي نفسي بالقراءة عنها، تلك الشقراء التي أحب. استللت كتاب «حبوب البن الساحرة.. التاريخ المختصر للقهوة» الذي يستعرض فيه الكاتب الأسكتلندي «غوردون كير» أساطير وخرافات وأماكن وشخصيات مثيرة وغريبة الأطوار، كانت قد ساعدت بجعل القهوة عنصراً أساسياً ويومياً في حياة البشر. كما يبحث في كتابه عن أصول القهوة، والتي أول ما وجدت في إثيوبيا واليمن، ثم انتشرت في الشرق قبل أن يعرفها الغرب من خلال الرحّالة والتجار.
«كير» يتتبع في كتابه تطور ظاهرة انتشار المقاهي التي ارتبط اسمها بتقديم هذا المشروب بالذات، ونمو شعبيتها في معظم بلدان العالم، وطريقة انتشارها في الشوارع الرئيسة وساحات المدن في شتى أنحاء العالم، من أوروبا إلى الأميركتين فأفريقيا وتركيا والعالم العربي بالطبع. وصفحات الكتاب تكشف أن مشروبنا المفضل هذا هو مزيج من الأسرار والحكايات والنوادر المثيرة والعجيبة. ومن اللطائف أن الأغنام هي أول من اكتشف سحر القهوة وطعمها اللذيذ.
ليس كتاب «كير» هو الوحيد الذي استحضر القهوة، فروايات عديدة ودواوين شعر وكتب حملت اسم قهوة، سواء كانت جزءاً من الحبكة، أم هي بالأساس تتحدث عن المجتمعات الفقيرة المنتجة لها، أو تكتب عنها كمنتج بالعموم أو عن المقاهي. ونعجب إذا نجد كتّاباً من مشارق الأرض ومغاربها كتبوا عنها، من بينهم جامس هوفمان الذي ألّف «أطلس العالم للقهوة»، وأجاثا كريستي صاحبة «القهوة السوداء»، وماريو بينيديتي مؤلف «بقايا القهوة»، ومحمد م. أرناؤوط كاتب «من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي»، ولن أنسى كتاب «القهوة والأدب» للفرنسي جيرار جورج لومير، وكتاب «ثقافة القهوة» لكاثرين م. تاكر. هؤلاء، وسواهم كثر، كتبوا عن القهوة وفيها ولها، وأضافوا للمكتبة العالمية مؤلفات جديرة بالقراءة لأنهم من خلال القهوة يدخلون إلى حياتنا وعالمنا.. عالم البشر بكل ما فيه.
  3309390