أثار اللقاء التلفزيوني الذي ظهر فيه وزير الخارجية اللبناني السابق «شربل وهبة» الكثير من الجدل في وسائل الإعلام الخليجية واللبنانية على حد سواء. المواطنون الخليجيون اعتبروا حديث وهبة خالياً من اللباقة واللياقة، وذا نفس استعلائي مقيت، لكن اختلف اللبنانيون في ما بينهم، ما بين رافض لمحتوى الحديث بالكلية، ومحتج على مناسبته وتوقيته، ومؤيد له ومتفق مع تفاصيله كافة.
والحقيقة أن حديث «الوزير العوني» المتعاطف مع «حزب الله» شربل وهبة ليس جديداً على العلاقة التي تربط الدول الخليجية بدول الشام أو مصر، وإنما هو جزء من الأدبيات الشعبية التي تظهر حيناً وتختفي حيناً لمناسبة المقام والمقال.
الوزير وهبة ليس هو الأول الذي يتحدث بهذه اللغة الفوقية ولن يكون الأخير، فما هي الأسباب التي رسخت هذه العلاقة المرتبكة بين الطرفين؟ حينما تمكن «العسكر» في منتصف القرن الماضي من حكم بعض الدول العربية المتحررة تواً من ربقة الاستعمار، أخذوا يوجهون سهامهم الإعلامية لدول الخليج العربي، وخصوصاً السعودية لسببين رئيسين. الأول، لخلق عدو خارجي، يزعمون أنه (رجعي ملكي مناوئ للجمهورية والتقدمية والطليعية)، بحيث تصطف ضده أطياف الشعب كافة، الأمر الذي سيساعد في تفويت الفرصة على النخب السياسية المحلية الوليدة المقاومة للعسكر من اختطاف أي صوت شعبي وتوجيهه ناحية الحكومة! 

والثاني، تبعية المغلوب للغالب، فالنظرة الاستعلائية التي كان ينظر بها المستعمِر الغربي للشعوب التي تقع في دائرة احتلاله تحولت بشكل آلي إلى المتحرر تواً من الاحتلال، الذي صار يوزع نظراته الاستعلائية وعباراته المنتقصة والمحتقرة لدول الصحراء التي لم يفكر المستعمر الغربي حتى في احتلالها! صار يتقمص دور المستعمر، لا أقل ولا أكثر، ليشعر بحال الفوقية التي كان يراها من قبل ولا يلمسها! ومن هنا نشأت حالة «المراكز والأطراف» في المجالات الثقافية والسياسية وحتى المجتمعية! 

كان نظام جمال عبدالناصر مثالاً جيداً للسبب الأول، إذ كان ينقل الهموم  الداخلية إلى ما وراء الحدود ليُشغل المواطن «المنهك اقتصادياً» بالقومية العربية التي تمثل مصر مركزها.  فيما كانت سوريا ولبنان وسائر بلاد الشام مثالاً جيداً للسبب الثاني، فالأقنية التي حفرها المستعمر في المدن الشامية لا يوجد مثيل لها في دول الخليج. ودور السينما التي جاءت فكرتها وتصميمها وأدواتها من الدول الغربية إلى حواضر الشام ليست موجودة أيضاً في الصحارى الجرداء في الجزيرة العربية. والبذلة وربطة العنق الحديثة اللتان تركهما المستعمر خلفه ليلبسهما المتحررون الجدد يقابلهما عند «أهل البدو» الثوب والشماغ اللذان يعبران عن الرجعية والتخلف. هذه المكتسبات، وغيرها الكثير من أسباب الحياة الحديثة، كان لا بد أن تجعل من الشامي الحديث مستعمراً ثقافياً جديداً يتلذذ بممارسة الدور الذي كان يُمارس ضده منذ أعوام قليلة.
«شربل وهبة» لن يكون الأخير كما أسلفت، وسيبقى هو المتضرر على الدوام من هذه «الجدلية الثقافية». ولن ينتبه لما يدور حوله، ما لم يخلع الوهم عن كتفيه ويبدأ رحلة التطور والتقدم من حيث تركه الآخرون.
* كاتب سعودي