يمضي مسار التسوية السياسية في ليبيا في طرق دائرية يبدو الخروج من بعضها صعباً حتى الآن بسبب جسامة التحديات التي تواجه الحكومة والمجلس الرئاسي الجديدين، فيما الموعد المحدد لإجراء الانتخابات العامة يقترب. يحتاج الإعداد التقني لمثل هذه الانتخابات عدة أشهر. وحتى إذا حدث توافق على قانون الانتخاب خلال أسابيع، لا تستطيع المفوضية العليا للانتخابات أن تشرع في عملها من دون وضع حد للاضطراب العام الناتج عن عوامل، أهمها وجود ميليشيات مسلحة ومرتزقة أجانب.
تحاول تلك الميليشيات إعادة إنتاج دورها في عهد الحكومة السابقة التي اعتمدت عليها، وكانت أسيرةً لها. ووصل سعيها لدعم نفوذها إلى حد اقتحام فندق كورنيثا الذي يجتمع فيه المجلس الرئاسي، والمجاهرة بأنها تريد استبدال وزيرة الخارجية.
ويبدو صعباً للغاية لجم هذه الميليشيات من دون دعم فعلي قوي من جانب المجتمع الدولي. لكن هذا الدعم مازال محض لفظي وغير مؤثر، بخلاف ما كان متوقعاً في مطلع العام الجاري، عندما أمكن التوصل إلى التسوية الهشة التي أتاحت تشكيل حكومة وحدة وطنية. ولنتأمل مثلاً زيارة الوفد الأميركي برئاسة مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى «جوي هود» طرابلس في 18 مايو الجاري. لم ترق نتائج هذه الزيارة إلى المستوى الذي كان مأمولاً، وبدت تصريحات رئيس الوفد خلالها أضعف مما يُنتظر من الولايات المتحدة في ضوء تعهدها تقديم كل الدعم للوصول بليبيا إلى بر الأمان، والتلويح بمعاقبة من يتسببون في عرقلة الانتخابات. ورغم حديثه عن ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها، لم يقدم التزاماً واضحاً بدور لبلاده في تذليل الصعوبات التي تعترضها، وتوفير الظروف الملائمة لها. كما لم يتطرق إلى إعادة فتح سفارة بلاده وقنصليتها في طرابلس وبنغازي، رغم أهمية خطوة كهذه في توجيه رسالة تُفيد انخراط واشنطن فعلياً في دعم مسار التسوية.
ولهذا، ولغيره كثير، يصح التساؤل عن إمكان إجراء الانتخابات الليبية في 24 ديسمبر المقبل، وعن تداعيات عدم إجرائها إذا لم تتيسر المقومات اللازمة لها. ويمكن تصور احتمالين أساسيين في ضوء المعطيات الراهنة. الأول أن يتعذر إجراء الانتخابات في حالة عدم تمكن المفوضية المسؤولة عن ترتيباتها من إيجاد صيغة متفق عليها للإشراف على مراكز الاقتراع وآليات عملها، بسبب محاولة الميليشيات أو بعضها انتزاع دور أساسي يُمكَّنها من التأثير في العملية الانتخابية، ويُقلل وظيفة هذه المفوضية في المناطق الغربية أو بعضها.
وفي هذه الحالة، لا يمكن إجراء انتخابات تحت تهديد سلاح غير شرعي يسعى حاملوه إلى التحكم في نتائجها في المناطق التي يوجدون بها، ويزعزعون الأمن الانتخابي. فهذا الأمن أحد أهم مقومات أية عملية اقتراع عام، بل أكثرها أهمية في حالة ليبيا وغيرها من الحالات التي يوجد فيها سلاح غير شرعي. وقد حذَّرت مفوضية حقوق الإنسان في العراق قبل أيام من عدم إمكان إحكام الأمن الانتخابي اللازم لحماية الناخبين من الضغط والابتزاز في الانتخابات المقبلة التي لم يُحدد موعدها بعد.
أما الاحتمال الثاني، فهو أن تُجرى الانتخابات في موعدها بعد الالتفاف على المشاكل والصعوبات الناتجة عن وجود الميليشيات، ثم يحدث انقسام بشأن نتائجها، في ضوء عدم وجود ضمان لأن يعترف الجميع بها ويرتضونها.
ولا تجوز الاستهانة بالتداعيات الخطيرة للعجز عن إجراء الانتخابات، أو الإخفاق في إكمالها وصولاً لتسليم السلطة إلى حكومة يختارها الشعب الليبي بإرادة حرة. ولا يمكن أن نستبعد في هذه الحالة إعادة إنتاج سيناريو ما حدث بعد اتفاق الصُخيرات، وتصاعد الصراع الداخلي مُجدَّداً. وهذا ما يتعين أن يُدركه المجتمع الدولي قبل فوات الأوان. 

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية