هناك عالم بدأ يأخذ شكله الجديد اليوم، وفي سياق تشكله النهائي، هناك شرق متوسط يتشكل أيضاً، ليكون بديلاً عن تركيبة «الشرق الأوسط»، وشرق المتوسط هذا ليتشكل بصيغة نهائية سليمة، فيجب ألا يرث أياً من موروثات الشرق الأوسط الذي يتفكك اليوم.
تلك عملية تحول في العلاقات الدولية والإقليمية، ذات حركة ثقيلة تشبه الزحزحة القارية، ومثلها أيضاً لها تداعياتها وتصدعاتها وانهياراتها وحفر انهدام عميقة ستبتلع كثيراً من قواعد وقوانين ومفاهيم عالم الأمس القريب.
عالم بدأ فعلاً يحقق فكرة «القرية الصغيرة» بالتواصل التقني والمعلوماتي إلى حد أنك يمكن أن تنجز صفقات بيع وشراء في أي مكان من مقعدك، بل إن الشكل المؤسسي لمؤسسات البيع وتقديم الخدمة تغيرت بشكل يحمل مفارقات غريبة عن عالمنا السابق، فلنلاحظ معا مثلاً: أكبر مؤسسة في العالم لتقديم خدمة التوصيل بالسيارات لا تملك سيارة واحدة، وأيضاً شركات على الإنترنت تقدم لك أفضل عروض استئجار فنادق في العالم أو حتى بيوت مفروشة ولا تملك لنفسها عقاراً من تلك العقارات، نحن أمام سوق متحول بجوهره ومفاهيمه، والناس يتكيفون بسرعة مع المستجدات، وهي مستجدات على صيغة نمط حياة وعيش بكل تفاصيله.
الطاقة، التي صار الغاز فيها شريكاً للنفط وبندية مباشرة وضرورية، وبدائل الطاقة التي تحولت من مشاريع تجارب إلى مشاريع منجزة كاملة الأهلية لإنتاج نوع جديد ونظيف من الطاقة لتوليد الكهرباء في المصانع والدفء في البيوت.
هذا الغاز الذي اكتشف العالم أن شرق المتوسط نفسه فيه أكبر احتياطيات العالم، هو الذي وضع الشرق الأوسط بكل مفاهيمه وعلاقاته وتحالفاته أمام حائط مسدود لا يمكن الاستمرار فيه، مما يفسر إلى حد كبير التموضعات الجديدة في العلاقات الإقليمية في شرق المتوسط الجديد.
الحروب والأزمات، هي تلك الانهيارات والتصدعات الأخيرة بسبب الزحزحة القارية، لا بد منها كضرورة تراجيدية مرفقة مع التحول الجذري والكبير في الشرق الأوسط، وتداعياته لا تقتصر على حدود تلك الجغرافيا وحسب، بل هي ممتدة ومتصلة في سياق تغير عالمي كبير في كل مفاهيم العلاقات الدولية القائمة على مفاهيم جديدة قد يكون فيها لسيادة المدينة أن تؤثر على قرارات الدول نفسها، فالمجتمعات هي التي تفرض إيقاعها في كل حالات التطور تلك.
البنوك والمصارف، ستشهد تغيرها الكبير أيضاً، ونحن اليوم أمام هزة زلزالية في مفاهيم الاقتصاد والنقد، النقود التي كان تعريفها الكلاسيكي أنها مخزن للقيمة، بدأت منذ زمن طويل لا تعمل على قياس قيمتها بالذهب مثلاً، فالدولار نفسه ومنذ عقود تم ربط قيمته بالثقة، الثقة وهو مفهوم ذهني لا مادة ملموسة.
اليوم، تبتكر البشرية عزلات افتراضية، لا يمكن لمسها، ومنها ما يحتاج تنقيباً افتراضياً في مناجم افتراضية، كل تلك العناصر تعطيك نقوداً لا تراها ولا تلمسها، وليست مادية فلزية أبداً، لكن لديها قدرة شرائية تمكنك من شراء سيارة كبيرة وفخمة مثلاً.
هو عالم متغير، وشرقنا الوارث لكل خيباته التاريخية لن يخرج عن سياق الانفجار «الكوكبي» العظيم، وتلك الخيبات مثل المفاهيم التي أسست لها، لن يكون لها مكان في عالم نقف على عتباته اليوم.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا