خلال أحداث غزة الأخيرة، نشرت صحيفة «الفيغارو» الفرنسية (18 مايو) عريضة مطولةً وقّعتها 76 شخصية سياسية وفكرية معروفة، أعلنت تضامنها مع إسرائيل دون أي إدانة للاحتلال والعدوان ودون أي ذكر لحقوق الشعب الفلسطيني. 
من بين الموقعين على العريضة وجوه يمينية متطرفة وشخصيات معروفة بعدائها للإسلام والعرب، ومن بينها رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق مانويل فالس والفيلسوف الوزير ليك فري. والمثير في الموضوع أن الفيلسوف والإعلامي الآن فينكلكروت، المشهور بتعاطفه القوي مع إسرائيل وهجومه الحاد على الوجود العربي والإسلامي في فرنسا، رفض التوقيع على العريضة التي اعتبرها غير متوازنة ولا منصفة.
والسؤال هنا هو: لماذا تغيب قيم التنوير والعقلانية النقدية والمفاهيم الحقوقية والإنسانية في التعامل مع الملفات العادلة المتعلقة بالقضايا العربية في الوقت الذي تشكل هذه القيم والمفاهيم المرجعية العميقة للخطاب الحداثي والتنويري الغربي؟
لا يتعلق الأمر هنا بالكلام الممجوج حول «ازدواجية المعايير»، وإنما بتحول نوعي في الخطاب السياسي والفكري الغربي، الذي بدأ منذ سنوات التخلي عملياً عن تركة التنوير والقيم الإنسانية الكونية، والانغلاق في أيديولوجيات الهوية الحضارية المهدَّدة والنزعات القومية الانكفائية. 
عندما نتحدث عن فكر الأنوار نعني هنا الديناميكية الثقافية المجتمعية الكبرى التي عرفتها أوروبا منذ نهاية القرن السابع عشر، وقد تمحورت حول أفكار الحرية الذاتية والنزعة الإنسانية الكونية والعقلانية النقدية والتسامح العقدي والاجتماعي. ومن خلال هذه الأفكار الخصبة استطاعت أوروبا الحديثة بناء أنظمة تعايش مدني ناجعة جنبت مجتمعاتها الحروب الأهلية والاستبداد السياسي، كما استطاعت تكريس منظومة من الحقوق الثابتة تكفل كرامة البشر وحرياتهم الأساسية.
وهكذا شكلت هذه التصورات والأفكار القوة الدافعة للثورات السياسية والمجتمعية الكبرى التي غيّرت وجه القارة العجوز ومكّنتها من التحكم في العالم. وإذا كانت الحركة الاستعمارية موجّهة بمنطق الاستغلال والهيمنة، فإنها استندت إلى خطاب نشر القيم الحضارية الجديدة و«تمدين الشعوب المتخلفة وتحريرها».. وهي شعارات زائفة بطبيعة الحال لكن بعض مفكري وكتاب الحداثة والتنوير صدّقوها بسذاجة من منظور تطوري إيجابي لحركة التاريخ. 
ولقد اعتبر قادة حركات التحرر الوطني أن الطريق الأمثل لمواجهة المقاربات الاستعمارية هو التشبث بقيم التنوير والحداثة نفسها، من أجل الدفاع عن حقوق الأوطان والأمم في الحرية والتقدم. تلك هي السبيل التي انتهجها المهاتما غاندي في الهند والحبيب بورقيبة في تونس.. في حين تشبث العديد من رموز الحركات الوطنية الأخرى بالخطاب القومي الخصوصي الذي ظهر أصلا في الغرب ردة فعل على النزعة الإنسانية الكونية.
المشْكل في خطاب الهوية أنه يقوم على الدفاع عن خصوصية الانتماء وحقوق المغايرة والاختلاف وبالتالي لا يمكن أن يتحدد إلا بالمعايير السلبية الإقصائية مقابل الروابط والالتزامات الإنسانية الكونية. أهم مَن بلور نظرية الهوية القومية في العصر الحاضر المفكر الفرنسي ارست رنان، وقد حددها بمعياري الإرث المشترك والإجماع المعيش. بيد أن هذين المعيارين يتعارضان ضرورة مع الأفق الإنساني المشترك، كما يتعارضان مع الواقع الاختلافي المتنوع للكيانات الاجتماعية، ومن هنا التناقض النظري والقيمي بين خطاب الهوية وخطاب التعددية الديمقراطية القائم على فكرة المواطنة المفتوحة والتنوع الفكري والسياسي. لقد بيّن عالم الاجتماع المشهور بيار بورديو أن مقولة الأمة التي هي المرتَكز الأساس في خطاب الهوية تتأرجح بين مدلول المجتمع السياسي المنظَّم المؤسَّس على رابطة تعاقدية قانونية لا مجال فيها للمحددات القومية، ومدلول رومانسي عضوي لمجموعة ملتحمة بالأصل والتركة بما يتنافى مع معايير المواطنة والإرادة الحرة، ويؤدي حتماً إلى النزعات الشوفينية الاستعلائية. 
ما نعيشه راهناً هو تراجع خطاب التنوير الإنساني في الديمقراطيات الغربية التي تزايد فيها نفوذ وحضور التيارات القومية الرافعة لشعار الهوية الخصوصية، بما كان له أسوأ الأثر على المواقف من القضايا العالمية العادلة. لقد ظهر من الجلي أن منظومة القانون الدولي ومؤسساته غدت في السنوات الأخيرة مشلولة أمام التجاوزات والانتهاكات التي تتركز مسؤولياتها في الدول الديمقراطية. ومن مظاهر هذه الانتكاسة صعود «الديمقراطيات غير الليبرالية» والعودة لمنطق «الحرب العادلة» ذات الخلفية اللاهوتية الوسيطة، وتغليب منطق الأمن والاندماج القومي على الالتزامات الحقوقية.
ما يتعين اليوم علينا هو التشبث بالرصيد العقلاني والتنويري من أجل الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا، لا من منظور الذود عن الهوية والخصوصية، وإنما من منطلق إنساني كوني يوفر غطاءً شرعياً صلباً وفاعلاً لمطالبنا ونضالاتنا العادلة.


*أكاديمي موريتاني