حين كنت أشاهد مباراة كرة القدم الأخيرة بين فريقي مانشتسر سيتي وتشيلسي الإنجليزيين استعدت ما تناولته في كتابي «المجاز السياسي» عن الاستعارات السياسية التي تصور هذه اللعبة على أنها راية وطنية، لكني استعدت أكثر ذلك الحوار الذي دار بيني وبين اثنين كانا جالسين إلى جانبي على مقهى بالقاهرة نشاهد مباراة للمنتخب الإنجليزي في ربع نهائي كأس العالم 2006. كنت أشجع الفريق البرتغالي، أما هما فبلغ حماسهما للإنجليز أشده. نظرت إليهما في استغراب، وسألتهما ضاحكًا: تشجعان فريق بلد احتل بلادنا، وتنسون أبناء عمومتنا من البرتغاليين؟ كنت أشير إلى ما تركه العرب من أثر في بلاد الأندلس التي انتهت إلى إسبانيا والبرتغال، وفهما ما أقصده، لكن أحدهم قال لي في ثقة: لو عشت في إنجلترا لكان موقفك مختلفًا.
وراح زميله يشرح لي كيف يستظل جميع من على أرض إنجلترا بمظلة من الحرية والاحترام في بلد لا تفرق قوانينه بين كل من يحمل جنسيته أيًا كان عرقه أو دينه أو مستوى البلد الذي جاء منه في سلم التنمية والحضارة. وفيها ينعم اللاجيء والمستجير واللائذ والباحث عن عمل بحقوق لا تتوفر له في بلده الأم. التقط الثاني الخيط وحدثني عن أيامهما في لندن، وعرفت أنهما قد درسا في جامعة «برايتون»، وعاشا هناك أيامًا لا تُنسى، ويعتزمان العودة بحثًا عن مكان في بلاد فتحت لهما ذراعيها، وأحسا فيها بأمان.
وعاد الأول ليحدثني عن المؤسسة المنضبطة هناك، وكيف أنها تمتد من القصر الملكي ورئاسة الوزراء حتى كرة القدم. بعد سنين تذكرت هذا وأنا أرى محمد صلاح يلعب في الدوري الإنجليزي، وأكتب عن درسه قائلًا: «يبدع الموهوب في كل مجال أكثر وسط منظومة ناجحة. صلاح لا يزال موهوبًا متفردًا في كرة القدم، لكن توعك ليفربول يؤثر على منجزه. كذلك المهندس والطبيب والكاتب والمدرس والعامل.. الخ، مهما كانت عبقريته فإن تهالك المؤسسة أو تراجع قوة الدولة التي ينتمي إليها، يؤثر سلبا على ما يفعله». أيام جلستنا هذه كان صلاح في الرابعة عشر من عمره، مجهولًا في قريته بدلتا مصر.
حكي لي أحدهم، وعيناه تغالبان الدمع، كيف أن مصر تسكن دمه، وأنه وهو هناك يأكله الحنين إليها، لكن لا ينكر ما يلاقيه من احترام على أرض كانت عنه غريبة، والآن تبدو له فرص التحقق فيها أكبر من هنا. إنه أمر تعيس أن تضيق بالمرء بلاده، وتفتح بلاد الناس له ذراعيها، ويعيش فيها بلا خوف، مستظلًا بالحرية والعدل.
أنصت يومها إليهما جيدًا، ولم أنكر أن ما وجدته لديهما شيء حسن، فأنا من الذين درسوا ما فعلته «الماجنا كارتا» الصادرة عام 1648 في تاريخ الإنسانية، وكيف حقق الإنجليز في هدوء التطور السياسي الذي ساهم في وصول العالم إلى فضاء جديد دون إراقة دم، وسبقوا في هذا الثورة الفرنسية، التي رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة، لكنها سرعان ما ارتدت عليها، حين انتصرت القوى المضادة لها، وجاء الجنرال نابليون إلى الحكم وفي رأسه مشروع للتوسع والاستعباد والقهر، قبل أن يرحل، وتعود الحرية إلى الجريان.
إنجلترا بالنسبة لي لم تكن فقط ما قرأته في كتب التاريخ، لكنها أيضا ما طالعته في كتب الأدب، فمن بوسعه أن ينسى مسرحيات شكسبير وجورج برناردشو وروايات سومرست موم وأشعار جون كيتس وتوماس ستيرنز إليوت، وهي أيضا فلسفة توماس هوبز، والتصورات الاقتصادية العميقة لآدم سميث وجون ماينارد كينز، وهي العبقرية السياسية لتشرشل، وهي الذاكرة البعيدة التي كانت تقول إن الملك ريتشارد قلب الأسد الذي جاء على رأس حملة الفرنجة لاحتلال الشرق في القرون الوسطى كان أكثر الملوك شجاعة ورجاحة عقل، كما أن إنجلترا هي البلد الذي التقط كرة القدم من الصين، ووضع لها نظاما فصارت اللعبة الشعبية الأولى في العالم.

* روائي ومفكر مصري