لم يَدُر بِبَالِ السيدة التي اشتدت عليها آلام المخاض باتجاه الوضع، عام 1940، بحارة البحر، إحدى حارات عروس البحر، جدة، وهي تطلق صرخاتها أثناء ولادة صَبِيِّها، أنها ستضع طفلاً، يختار مسار حياته بناءً على توصية والدته، حُبّاً لها وبِرَّاً بها، ثم سيعود لحيث شغفه بعد سنوات.
أما ميول الوليد، في شبابه، فكانت باتجاه الصحافة والأدب، وأما رغبة الوالدة، فكانت دراسة الطب! والوليد الذي نتحدث عنه، هو د. عبدالله منَّاع، الذي نعاه الوسط الثقافي والإعلامي السعودي، في يناير 2021، عن عُمر قارب 82 عاماً.

ينقل الصحافي علي حسون، المقرب من الراحل، أن والدة منّاع، أقنعته بدراسة الطب، عندما قالت له: يا ابني الكتابة والصحافة، يمكن ممارستها دون ضرورة لدراستها.
أتم منَّاع دراسته التمهيدية بجدة، فحصل على الابتدائية في المدرسة السعودية بحارة الشام، والإعدادية ثم الثانوية العامة في المدرسة السعودية الثانوية بالقصور السبعة بحارة البغدادية، وفي أوائل 1957 ابتعث لمصر لدراسة طب الأسنان بالإسكندرية، فتخرج عام 1962، ثم عاد لجدة، فعمل طبيب أسنان بالمستشفى العام، وتقلب في الوظائف الطبية، حتى تفرغ لعيادته الخاصة، لكنه في 1974 هجر الطب، ويمم وجهه باتجاه الصحافة!
منَّاع كان شاباً فارع الطول، ذا حضور شخصي لافت، في عمقه الفكري، ولطفه الإنساني، وسخريته التي يمررها بإتقان واحترافية، ضمن أكثر الموضوعات جدية. بينما كان يدرس الطب بمصر، أخرج وهو في سنته الجامعية الثانية 1958، باكورة مؤلفاته: (لمسات)، «إرهاصاً باختياره المبكر لأن يكون أديباً وصحافياً، وأن يضطرب في روحه نزاع وتخاصم بين الأدب والطب»، طبقاً لحسين بافقيه، الذي اعتبر «الصحافة جَعَلَت منَّاع رائداً، فآثرها على طب الأسنان».
راسل منّاع مجلة (الرائد) الأسبوعية، خلال ابتعاثه، وكتب فيها زاوية أسبوعية، عنوانها: (من أيامي)، وإضافة لالتزاماته مع (الرائد)، حيث يحرر باباً أسبوعياً: (مُضيء ومُعتم)، ويجيب على بريد القرّاء باسمه المستعار (ابن الشاطئ)، كتب لجريدة (المدينة)، وحرر فيها صفحة عنوانها: (الباب المفتوح)، يجيب فيها على مشاكل القُرّاء.
تَركُ الطِب، كان مع تكليف منَّاع، تأسيس مجلة «اقرأ» الأسبوعية، ورئاسة تحريرها، فصدرت نهاية 1974، علامةً فارقةً في الصحافة السعودية، من حيث الجرأة، والتجديد، ومواكبة الواقع، واعتبرها د. عبدالواحد الحميِّد: «مدرسة في صحافتنا المحلية». ترك منَّاع «اقرأ» بعد ثلاث سنوات، ثم عاد لرئاسة تحريرها بعد سنتين، وبقي فيها ثماني سنوات، حتى أقيل في 1987. وفي كتابته عن التاريخ الاجتماعي والجمالي والثقافي لجدة، اعتبر محمود صبَّاغ، إصدار منَّاع «اقرأ»: «بدايات صعود الصحفي النجم»، وقال عن بدايات المجلة: إن المنَّاع «كَوَّن خلالها فريقه الذي كان خليطاً من الوطنيين، والمصريين، والسودانيين، واليمنيين... نَجَحَ خلالها في تقديم أنماط من صحافة التحقيق، والقصة الصحفية، كما فَتَحَ صفحات المجلة لتنحاز لتيار الحداثة الأدبي، خلال صراعاتها الشهيرة في الثمانينات».


ويَصِف صبّاغ، د. منَّاع، بأنه: «كان بزهوه الذاتي الشديد، وأناقته، وثقافته القومية، ومعارفه الفرانكفونية، ولكنته الجِدّاوِيَّة، الممزوجة بالنكهة الإسكندرانية، ولقب الدكتوراه الذي يحمله، وغليونه الذي لا يتنازل عنه، صورة من صور نجومية الصحفي في زمن توَهُجِه».
في 1998، كُلِّفَ منّاع بإصدار ورئاسة تحرير مجلة (الإعلام والاتصال)، فبقي رئيساً لتحريرها بضعة سنوات، حتى تفرَّغ لكتاباته الصحافية والأدبية.
أصدر د. منَّاع مؤلفاتٍ تناولت: القصة، والرواية، والمقال، والخاطرة، وأدب الرحلات، والسيرة، منها: (لمسات) 1958، (أنين الحيارى) 1968، (ملف أحوال) 1972، (إمبراطورية النغم: قراءة فكرية في حياة الفنان محمد عبدالوهاب) 1992، وكتب جوانب من سيرته: (بعض الأيام... بعض الليالي: أطرافٌ من قصة حياتي) 2008، (تاريخ ما لم يؤَرَّخ: جدة الإنسان والمكان) 2011.
صديق منّاع، الوجيه الأديب، عبدالمقصود خوجة، قال عن صاحبه في 2004، إنه «يحمل في إهابه دائماً زهو الشباب، وأصالة ابن البلد، فهو مزيج من الهدوء والصخب.. الفرح الطاغي والحزن العميق.. السعادة والشقاء بما حوله ومن حوله.. إنسان تمور في جوانحه مختلف المشاعر التي لا تخفيها تعابير وجهه أو كلماته.. إذا قرأت كلماته حسبت أنك تسمع صوته يأتيك من مكان خفي.. وهذا ببساطة يعني أنه جوهر مميز في كل حالاته التي تتعلق بالكلمة، لا يُماري، ولا يُجامِل، ولا يَتَجَمَّل.. يبحث عن الفكرة الجيدة، ويلتقطها من زوايا احترافية، قد لا تخطر على بال كثيرين، ثم يصُوغُهَا بأسلوبه المُمَيّز، ويُغدِقُ عليها من ثقافته الواسعة، ما يجعلها قطعة أدبية بمواصفات خاصة». 
الحديث عن جُرأَةِ عبدالله منّاع، في كتاباته ونهجه الصحافي، يستدعي أحمد شوقي، بقوله:
رُتَبُ الشَجَاعَةِ فِي الرِّجَالِ جَلَائِلٌ *** وَأَجَلُهُنَّ شَجَاعَةُ الآَرَاءِ
عندما كَرَّمَ عبدالمقصود خوجة، صاحبه د. منَّاع، في ندوته الفكرية الشهيرة (الاثنينية)، عام 1989، قال عنه: «إنّهُ المُتْعَبُ... المُتْعِبُ. مُتعَبٌ بما ينوءُ به كاهله من تمسكه بمبادئه وأخلاقياته، لدرجة أنني أُحِسُ بالتَعَبِ عنه، ومُتعِبٌ لأننا زملاءه نحس بالالتزام أمام ما نراه من سلوكياته». وفي نفس الحفل أَيَّدَ الأديب الكبير محمد حسين زيدان، خوجة، قائلاً: «منَّاع مُتْعِبٌ ومُتْعَب.. مُتعِبٌ للذين لا يعرفونه، أما الذين يعرفونه فيرتاحون إليه، ومُتعَبٌ من الذين لا يعرفونه ولا يريد أن يعرفهم.. هو مُثَلَّثُ العلاقة: صديقٌ لصديقه، خليلٌ لخليله، قليلُ الأصحاب، لأن المنَّاع عقلٌ قبلَ أن يكون عاطفةً، لهذا فهو ليس متعددُ المراحل، بل هو مرحلةٌ واحدةٌ... التزامٌ واحدٌ، لأن العقلَ قد يتطور ولا يتغير.. أما العاطفةُ فيحكُمها التغيير.»
في حوار صحفي نشرته «المجلة الثقافية» بجريدة (الجزيرة)، في مايو 2004، أجراه: صالح الخزمري، يقول عبدالله منَّاع:«إن قوام الكتابة، فِكرٌ حُرٌ، وكلمةٌ معبرة، وذاكرة تاريخية حاضرة، فإذا فقدت الكتابة أو الحوار بعض ذلك، أو كل ذلك، أصبحت كعبارات (الاستدعاء)، أو سندات القبض أو الاستلام». ويتحدث عن معادلته المعرفية في التعاطي مع القارئ، بقوله:«المعادلة المعرفية، تقوم على أساس أن نكسب القارئ، وأن يكسب القارئ معاً، فالقارئ يريد أن يعرف الحقيقة، حقيقة ما جرى ويجري، وأن يقرأ رأياً صادقاً، لا رأياً زائفاً، مُنافقاً، مُضَلِّلَاً. وهنا يمكن أن تَرِدَ كلمة المفكر والكاتب الألماني هيرمان هيس، المُرعبة: (الكتابة مأساة، يصنع بها الكاتب حتفه)».
عبدالله منَّاع، الذي رحلَ وسيرَتُهُ مِلء السَمعِ والبَصَرِ، عاش حياته يتيماً، وتولت والدته وجدّته تربيته، وهو يمتن كثيراً لليُتمِ، فيقول:«لو كان اليُتمُ رَجُلاً لقبَّلتُ جبينه، فاليُتم والفَقرُ حَفّزَانَي للنجاح. اثنا عشر عاماً دراسياً دون رسوب، وفي الإسكندرية خمس سنوات طب وسنة امتياز دون تعثر، رغم أن الدراسة باللغة الإنجليزية». كأن د. عبدالله منَّاع، رحمه الله، اتخذ لحياته منهاجاً، قول العبّاس بن مرداس، في بيت الشعر:
وَلِي نَفْسٌ تَتُوقُ إِلى المَعَالِي *** سَتَتْلفُ أَوْ أُبَلِّغُهَا مُنَاهَا
*السفير السعودي لدى الإمارات.