سواء تعلق الأمر بالوقوف في وجه شركات التبغ، أو تزعم الدفاع عن حقوق المثليين، أو تقنين استخدام الماريخوانا.. تتميز سياسة الأوروغواي العامة بجرأتها اللافتة في منطقة الأميركيتين. ولهذا، لم يكن مفاجئاً عندما انضم هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 3,4 مليون نسمة إلى الدول الرائدة في العالم في استخدام اللقاح المضاد لفيروس «كوفيد-19». ذلك أن نحو 28 من كل 100 من مواطني هذا البلد تلقّوا حقنة واحدة على الأقل من لقاح «كوفيد-19»، وهو أفضل أداء في القارة بعد التشيلي، وما يعادل ثلاثة أضعاف الحقنات في جاريها الأغنى ألا وهما البرازيل والأرجنتين. 
ومن مبادرات الأوروغواي التي كانت موضع إشادة العام الماضي تطبيقٌ إلكتروني لتعقب المخالطين، ومؤخراً أداة لحجز موعد لتلقي اللقاح أُشيد بها هي كذلك باعتبارها مؤشراً مهماً على نضج الجسم السياسي، حيث يمكن للاستخدام الحكيم لتكنولوجيا المعلومات أن يسرّع حل تحديات القرن الـ21. وإذا كان هذا هو المسار الذي سلكته الأوروغواي الصغيرة، فلماذا لا يكون أيضاً مسار بقية بلدان أميركا اللاتينية التي تكافح مجتمعاتها أسوء حالة طوارئ صحية في التاريخ الحديث، عبر إيجاد أدوات ذكية لمراقبة حالة الوباء، وإعداد سياسات للرد عليها، وإيصال الإغاثة بسرعة إلى المصابين، وإعادة إحياء الاقتصادات المدمَّرة؟
والواقع أنه ينبغي التريث قليلا؛ فبعد مرور عام على الوباء، تبدو الآفاق في الأوروغواي اليوم أكثر ضبابية؛ فبسبب تعبهم من الحذر من الفيروس وانتشار أشكال جديدة متحورة للفيروس، أصبحت الأورغواي معرّضة للخطر من جديد: إذ ارتفع منحنى الإصابات هذا العام، وفي وقت سابق من هذا الشهر، شهدت البلاد أعلى معدل إصابات لكل مليون شخص. والواقع أن حصيلة الوفيات الإجمالية البالغة أكثر من 4900 تُعد منخفضة بالنسبة لأميركا اللاتينية، التي تُعد بؤرة للوباء، لكنها تمثّل بكل وضوح انتكاسة بالنسبة لبلد كان يفخر بأدائه ويوصف بالمعادل النيوزيلندي في الأميركيتين، ومضرب المثل في الإدارة الصحية القائمة على العلم. 
لكن لا تَلُم التطبيقات. فتسريع عملية التلقيح هو أفضل طريقة لمنع الفيروس من الانتشار والتحول إلى أشكال أكثر خبثاً. وذاك بالضبط ما فعلته منصة الحجز المبتكرة، التي طوّرتها في ظرف أربعة أيام فقط شركة البيانات «جينيكسوس» الموجود مقرها في العاصمة مونتيفيديو، والتي تفخر بـ1,5 مليون مستخدم، حيث نظّمت طوابير افتراضياً بينما تهافت باحثون قلقون عن اللقاح على حجز مواعيد. 
غير أن المصاعب التي تواجهها الأوروغواي تُبرِز أيضاً حاجة أميركا اللاتينية، ليس فقط إلى وقف الوباء، ولكن كذلك إلى إعادة التفكير في الظروف السياسية والاجتماعية الجوهرية التي تُضعف حتى أكثر الأدوات التكنولوجية فعالية وتجعل انتشار الفيروس أسوء. فالخبرة والتفوق في التكنولوجيا له حدوده في منطقة تعاني من أقدم البلاءات– مثل اتساع انعدام المساواة في الدخل والاقتصاد غير الرسمي الواسع حيث الملايين لا يملكون سوى ما يسدون به رمقهم– وأنواع أحدث منها، مثل الهوة الرقمية والقبلية السياسية التي تبقي على المواطنين منقسمين وليسوا على اطلاع. 
وفي آسيا، كانت التكنولوجيا الرقمية حلا في انتظار مشكلة. فالذكاء الاصطناعي منتشر في أدوات وأجهزة الاستخدام اليومي، والهاتف الذكي بات شيئاً لا غنى عنه. وقد استفادت الدانمارك وإسرائيل من التحديد الافتراضي لهوية المواطنين لنشر اللقاحات وإعطائها بسرعة، في حين تراهن «منظمة الصحة العالمية» على التكنولوجيا الرقمية لتحدي التشكيك في اللقاحات وتعزيز الثقة في الأنظمة الصحية. 
وقد تبنت أميركا اللاتينية هذه التكنولوجيات بمستويات مختلفة من التطور. فقد استخدم 28 بلداً على الأقل، بمن فيهم زعيمة التلقيح في المنطقة الشيلي، تطبيقات على الإنترنت خلال الوباء، تقوم بكل شيء من الإحصائيات بخصوص معدلات الإصابة إلى البيانات المتعلقة بنظام تحديد المواقع الجغرافية لمراقبة الحركة. 
والواقع أن التقنيات الرقمية يمكن أن تكون مفيدةً، غير أنها تتأثر سلباً بمشاكل التكنولوجيا المنخفضة، ليس أقلها الأعداد الكبيرة منها على الجانب البعيد من الفجوة الرقمية. فالنخب التي تمتلك هواتف ذكية وشبكة إنترنت ذات نطاق عريض (وقريباً شبكات الجيل الخامس) تشتكي من «حمى المقصورة» وتعاني من التعب والملل من «زوم». غير أن نصف سكان المنطقة تقريباً ليست لديهم إمكانية الوصول إلى الشبكة أو لديهم اتصال ضعيف أو معيب بها، ومعرّضون لأمراض تزدهر في الاقتصاد غير الرسمي المزدحم.
بيد أن توسيع الاتصال بشبكة الإنترنت وتعميمه ليس سوى جزء من التحدي. فقد أظهر الوباء أن الطفرة التي بُشّر بها في تكنولوجيا المكاتب المنزلية هي ثورة للمحظوظين فقط. إذ وجد صندوق النقد الدولي أن 25% فقط من العمال في الاقتصادات الكبيرة لأميركا اللاتينية قادرون على القيام بوظائفهم عن بعد، مقارنة مع 30% إلى 50% في بلدان آسيا الصاعدة وأوروبا. 
إحدى الإيجابيات الجانبية للأزمة الصحية هي أنه من أجل توزيع مساعدات الطوارئ على المواطنين الأشد عوزاً، كان على الحكومات أن تجدهم أولا. وهذا ما أدى إلى إطلاق حملة عبر القارة الأميركية اللاتينية لتحديد وتسجيل الملايين من العمال الذي كانوا حتى ذلك الوقت «غير مرئيين» يعملون بشكل غير رسمي، ولم يكونوا بالتالي جزءاً من السجلات الرسمية لبرامج تحويل الأموال. ولهذا، فإن تعميم رقمنة أنظمة الهوية الوطنية يجب أن يصبح أولوية بالنسبة لأجندة مرحلة ما بعد الوباء. 
وكذلك الحال بالنسبة لتشجيع تعليم مبادئ استخدام شبكة الإنترنت. فإذا كان الكثير من الفقراء يمتلكون هواتف نقالة، فإن معظمهم يعاني من وصول غير موثوق إلى الإنترنت أو تجربة قليلة جداً بخصوص استخدام الشبكة، وهو ما جعل تلقي تحويلاتهم المالية الإلكترونية تحدياً حقيقياً. ثم سرعان ما أصبحت هذه الفئة من السكان مستهدَفة من قبل المفترسين السيبرانيين الذين تخصصوا في انتحال الهويات، واستخدام أساليب التصيد الإلكتروني من أجل الاستيلاء على الأموال على الإنترنت أو الظهور بمظهر وسيط رقمي من أجل الحصول على حصة من المساعدات المالية. وما أن نشرت الحكومة البرازيلية استمارة التسجيل على الإنترنت من أجل الحصول على مساعدات «كوفيد-19» العام الماضي حتى رصد البنك المركزي 693 موقعاً إلكترونياً سرياً على الإنترنت مصمَّماً لاعتراض التحويلات المالية الطارئة، كما أخبرني كلوديو لوسينا، الباحث في مشروع «سايبر برِكْس بروجيكت» التابع لـ«مؤسسة جيتوليو فارغاس». 

 

*كاتب متخصص في شؤون أميركا اللاتينية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»