بعد أسبوع واحد فقط من إشاراتنا إلى خطورة التعامل مع العملات المشفرة «الكريبتو»، برزت حقائق دامغة على هذه الخطورة لتؤكد من جديد خفايا «اللعبة الكبرى» التي تدار في غرف مغلقة وتحت إشراف منظمات متخصصة، سواء تابعة لأجهزة رسمية أم لجماعات الجريمة المنظمة. فقبل أيام قليلة تعرّضت شركة «كولونيل بايبلاين»، وهي شركة أميركية تمتلك أكبر شبكة أنابيب لنقل منتجات النفط، لقرصنة رقمية من قبل مجموعة «داركسايد»، أدت إلى توقف ضخ هذه المنتجات، مما أحدث أزمة مشتقات كبيرة في بعض الولايات الأميركية، حيث طالبت شركة القرصنة بدفع فدية بمبلغ 4.4 مليون دولار على شكل 75 وحدة من عملة «البيتكوين» المشفَّرة.
وبسبب الأزمة لم يكن أمام الشركة الأميركية سوى الإذعان ودفع المبلغ المطلوب لاستئناف عمل شبكة النقل، إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى قلبت الشركة الأميركية الطاولة على القراصنة، كما قالت مساعدة وزير العدل الأميركي «ليسا موناكو»، وذلك بعد أن تمكنت الأجهزة الأميركية من استعادة قيمة الفدية المالية المدفوعة بالبيتكوين، مما يبين أنها كانت «حرباً رقمية» بين أجهزة رسمية ومنظمة قراصنة.
ماذا يعني ذلك باختصار؟ يبين ذلك بوضوح أن عملات الكريبتو أضحت مجالاً واسعاً للمنظمات الخارجة على القانون وتجار المخدرات وغسيل الأموال، كما تساعد هذه العملات في الترويج لاقتصادات الظل المضرة، مع عدم وجود ضمانات لملكية للعملات المشفرة والتي يمكن استرجاعها أو مصادرتها من قبل قراصنة الإنترنت، وهو ما سوف يلحق بالمالكين خسائر بسبب التعامل في عملات وهمية. في نفس الوقت أوقفت الصين الأسبوع الماضي ألف شخص في أطار حملة واسعة للحد من الأنشطة الاحتيالية باستخدام العملات المشفّرة في نشاطات إجرامية.
الجانب الآخر لهذه الحادثة يبين، بأن مَن يقف خلف عملات الكريبتو، بالإضافة إلى الأشخاص، أجهزت دول ومنظمات سرية، وهو ما يتيح أمكانيات كبيرة لاستخدامها لتخريب اقتصادات دول أخرى من خلال تحويل جزء من الثروات التي تحققها إلى عملات مشفرة ونقلها إلى الخارج، بالإضافة إلى تحويل بعض الأنشطة إلى أنشطة غير مشروعة لتحيق أرباح طائلة، كتجارة المخدرات، وهو ما يبدو واضحاً في لبنان وأفغانستان وإيران وفنزويلا.
الغريب في الأمر أن مواقف الدول الكبرى تتفاوت بصورة كبيرة، ففي الوقت الذي تسمح فيه الولايات المتحدة وكندا بالتعامل مع الكريبتو، وبالأخص البيتكوين، فإن الصين تشن حملات متتالية ضد التعامل بها، أما الاتحاد الأوروبي فيتخذ مواقف هلامية تعكس الوضع المتراجع لأوروبا في العلاقات الدولية، حيث يتيح تفاوت المواقف هذا فرصاً مناسبة لجماعات الجريمة المنظمة، والتي تتمكن من خلالها بالنفاذ من الثغرات المتاحة، وذلك على العكس فيما لو كان هناك موقف دولي موحد من هذه القضية، بدليل أنه تم قبل أيام قليلة ضبط 800 شخص في 100 دولة في حملة نوعية بمشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي و«يوروبول»، حيث تمت مصادرة كميات كبيرة من المخدرات وضبط أسلحة و35 مليون دولار ووقف عمليات قتل مخطط لها في العديد من الدول.
وبالنتيجة فإن موضوع عملات الكريبتو، موضوع خطير جداً ومدمر للاقتصادات الوطنية، وهو ما يتطلب من كافة الدول حماية اقتصاداتها من خلال أجهزة مراقبة إلكترونية متطورة، إذ لا يمكن منع هذه التعاملات المشفرة بصورة مطلقة. بقى أن نشير إلى أن المقالتين السابقتين حول الكريبتو أثارتا بعض التساؤلات بفعل تداخل مفهومها مع مفهوم العملات الرقمية، إذ أن هناك فروقاً جوهرية بينهما، فالعملات الرقمية هي عملات فعلية وتستخدم من خلال شبكة الإنترنت لدفع ثمن السلع والخدمات، حيث تعتزم بعض البنوك المركزية إصدار عملاتها الرقمية الخاصة بصورة رسمية، كما أن هوية المالك معروفة، وهي آمنة بشكل عام، في حين أن العملات المشفرة «الكريبتو»، هي عملات رقمية لكنها مشفرة بنظام سري ولا توجد سلطة مسؤولة عنها يمكن اللجوء إليها، في الوقت الذي لا تُعرَف فيه هوية المالك، وهنا تكمن خطورة النصب والاحتيال. 


*خبير ومستشار اقتصادي