الجِدِيَّة والصرامة التي تنطق بها ملامح وجه الرجل، جعلته بعد صراع مع شظف العيش، وألم اليتم، حيث فقد والده ووالدته وهو ابن أربع سنين، عقب ولادته في عنيزة، إحدى مدن منطقة القصيم، وسط السعودية، عام 1918، يُحَوِّلُ الفاقة والعوز، إلى ثراء حَفَرَ به اسمه في قوائم أغنياء العالم. إنه رجل الأعمال السعودي، سليمان الصالح العلَيَّان، (ت 2002)، الذي أسس إمبراطورية مالية عالمية، مع أن أول راتب له كان نحو عشرة دولارات فقط! قبل أن ينشر الأميركي الشهير، أستاذ تنمية القدرات وصناعة النجاح، ستيفن كوفي، كتابه الأشهر عالمياً (العادات السبع للناس الأكثر فعالية)، بعشرين عاماً، كان سليمان العلَيَّان بعد رحلة نجاح أسطورية، أسس في 1969 شركة العلَيَّان المالية، التي تدير أربعين شركة في القطاعات المختلفة، بفعالية أهلتها للاستحواذ على حصص مالية مهمة في مؤسسات وشركات مصرفية وتجارية من الرياض، إلى نيويورك، مروراً بأهم عواصم المال والأعمال.

كأنَّ ستيفن كوفي يقصد العلَيَّان، بقوله: «الشخص المبادر، ليس لحوحاً، بل هو شخص ذكي، تقودهُ القِيَّم، ولديه القدرة على قراءة الأحداث، ويعلم ما يجب عليه القيام به». تجربة العلَيَّان بإخفاقاتها وصدماتها، ثم بنجاحاتها، جعلته يمشي مشية واثقٍ لا يحتاج إلى استعراض الثقة، فهو الملياردير الذي جعله امتلاؤه بنتاج التجارب يستغني عن البرهنة على ثرائه، غير حافل بالمظاهر، بعيد عن البهرجة، معادٍ للبذخ، وهو أحد أهم الدروس التي علّمها أبناءه، الذين ورثوا جديته، وصرامته، وإصراره، واجتهاده، وبعده عن الترف، فواصلوا السير على خطاه، وهم: خالد، وحَذَام، وحياة، ولُبنى.

الكاتب البريطاني، مايكل فيلد، أصدر سيرة سليمان العلَيَّان الشخصية، في كتاب بالإنجليزية، عام 2000، وبعدها بعامين، ترجم د. حمزة المزيني، الكتاب للعربية، «من عنيزة إلى وول ستريت». يقول المترجم عن سيرة الراحل الكبير: إنها «تشهدُ أن النجاح في الحياة، يتطلبُ الوعي المبكر بوجوب تربية النفس على حُبِّ العمل والجد فيه، ثم حب التميُّز والسعي إليه».

ويرى د. غازي القصيبي، الذي ألَحَّ على العلَيَّان ليخرج النسخة العربية من سيرته، لتكون نبراساً للجيل، إن السِّرَ إلى وصول هؤلاء الرُوَّاد المكافحين العصاميين إلى ما وصلوا إليه، يكمن في: «الانضباط! الانضباط! الانضباط... فمع الانضباط تجيء أشياء كثيرة عديدة: يجيء العمل الشاق من الفجر إلى منتصف الليل، وتجيء القدرة على التركيز على الهدف، وتجيء الرغبة في التعاون مع أفراد الفريق. ومع الانضباط تختفي أشياء كثيرة عديدة: يختفي الاهتمام الكاذب بالمظاهر، يزول الحرص على الترف، ويتلاشى الغرور».

تروي ابنة الشيخ سليمان الكُبرى، حياة عن والدها: «إنه يلفت انتباهنا دائماً إلى أنه ليس هناك أسئلة غبية أبدا، بل هناك أجوبة غبية، ثم إنك إن لم تسأل، فلن تتعلم. كما يوصينا أن نسألَ الناسَ المحيطين بنا عن آرائهم، ذلك أنك لا تستطيع دائماً أن تتنبأ بالمصدر الذي يمكن أن تأتي منه الأفكار الجيدة». لهذا أنشدَ، بشار بن بُرد (ت 168هـ):

شِفاءُ العَمى طولُ السُؤالِ وَإِنَّما         تَمامُ العَمى طولُ السُكوتِ عَلى الجَهلِ

فَكُن سائِلاً عَمّا عَناكَ فَإِنَّما         دُعيتَ أَخا عَقلٍ لَتَبعَثَ بِالعَقلِ

أما أكرم حجازي، أحد الذين عملوا مع العلَيَّان، فإنه يلفتنا إلى سلوك راقٍ، بقوله: «إذا تَكَلَّمَ سليمان ثم فتحتَ فاكَ (لتتكلم)، فإنه سيتوقف، لكي يسمع ما ستقوله». أحسبه موقِنٌ بقول المُبَرّد (ت 286 هـ): «الاستماع بالعين، فإذا رأيتَ عينَ مَن تُحَدِّثُهُ ناظرةً إليكَ، فاعلم أنه يُحسِنُ الاستماعَ». وصل شأن العلَيّان، فبات يعرفه الساسة في واشنطن العاصمة، بالإضافة إلى زعماء ممتدين من أوروبا باتجاهات العالم، بعد أن أصبح ابن عنيزة، رقماً صعباً في عالم المال والأعمال، وليس فقط في منهاتن، حيث «وول ستريت»!

في تلك المدينة الوادعة عنيزة، كان ثمة رجل بالغ الذكاء، موفور العقل، يدعى، صالح العلَيَّان، يعمل في تجارة التوابل، التي يستوردها من الحبشة، ويبيعها للناس من حاضر وباد، ولأنه رأى -بذكائه الوقاد وإحساسه التجاري- أن المدينة المنورة، أوسع لعمله، وأنفقُ لتجارته، انتقل إليها بعائلته، وهناك، أخذت تجارته تزدهر، حتى طرده الأتراك من المدينة في أواخر الحرب العالمية الأولى، فتعرض والد سليمان لخسارة موجعة، أعادته لعنيزة، حينها ولد بطل حكايتنا، وفي أولى سنوات حياته لاحقته الفواجع، باليتم المزدوج، ورحيل والديه. تولّت الجدة الصارمة تربية حفيدها، في ظروف معيشية صعبة كان أهل نجد يعيشونها، إذ الحصول على بعض اللُحيمات، حدث نادر، قد لا يتكرر في عام إلا قليلاً. القوت هو التمر، والحليب، وبعض المأكولات التي توفرها الزراعة البدائية.

كبر الطفل سليمان، ليواجه قسوة الحياة، وجفاء الفقر والفاقة، فسافر برفقة أخيه الأكبر الذي كان يعمل عند أسرة «العجاجي» بالبحرين. وهناك، التحق الفتى بالمدرسة، وكان طوال فترة دراسته، متفوقاً على أقرانه، مجتهداً في التَعَلُّم، يضني نفسه في المذاكرة، ويستمتع بمعاقرة اللغة الإنجليزية، لغة دراسته الرئيسة آنذاك، وهو عِشقٌ امتدت شجرته الوارفة مع صاحبنا حتى وفاته، فمن متعهِ الاستزادة من الكلمات الإنجليزية، والتبصر بمعانيها، والأنس بمعرفة اشتقاقاتها وجذورها.

لكنّ الفتى لم يلبث أن تخلى عن دراسته بعدما صار في سن المراهقة، إذ التحق بشركة نفط البحرين، مراقباً لكميات البترول في الصهاريج، فمراقباً لضخ البترول في السفن، بأجر زهيد لا يكاد يبلغ شهرياً عشرة دولارات أميركية! سمع الفتى بوجود شركة بترول أخرى تدعى «كاسوك/ أرامكو»، بالسعودية، فيَمَّمَ وجهه صوبها، وعمل مراقباً لدخول المركبات مقر الشركة، ثم انتقل إلى المستودع، لكِنَّهُ لم يكن مجرد عامل، بل كان متعلماً، يسأل عن كل قطعة، وطريقة استخدامها، وبدائلها، وجودتها، وعن سبب اختيار مورّد ما على مورّد آخر.

كان يأخذ عمله بجدية بالغة، وأجاد التعلم من الأميركيين دَأَبهم في الشُغُل، وارتفاع قيمة العمل لديهم، حتى لا تكاد تضاهيه قيمة، وإيمانهم بروح الفريق في تأدية المهام. كل ذلك تَشَرَّبه الرجل فصارَ سلوكاً أصيلاً لديه. وشيخ الفلاسفة أفلاطون، يعتبرُ «البدايةَ أهم جزء في العمل»، ويرى «إتقان العمل يحقق الأمل». تلك الجدية، التي طبعت سليمان، أهّلته ليترقى في المستودع الضخم الذي يعمل به، حتى غدا واحداً من قياداته. تسع سنوات من العمل والتعلم، واكتساب المزيد والمزيد من مهارات التواصل باللغة الإنجليزية.

وإضافة إلى عمله الرسمي، كان سليمان يعمل مترجماً، وينجز بعض الخدمات لزملائه الأميركيين بمقابل مالي يضيفه إلى دخله. كانت براعة سليمان في الإنجليزية، وجديته في العمل، وفهمه العميق لقيم الأميركيين العملية، سبب ثقة مديريه، ليصيرَ المترجم المُعتمد، بين الشركات البترولية، وبين الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله. ترك العلَيَّان المستودع، ليعمل قرب قيادات الشركة، مترجماً، وباحثاً، واشترى، بمرتبّه ومدّخراته، منزلاً صغيراً في الخبر، قبل أن يقرر أنه اكتفى من العمل موظفاً، عليه أن يشرع في عمله الخاص.

أسس العلَيَّان شركة مقاولات، ودخل مناقصةً لتنزيل المواد من السفن في ميناء «رأس مشعاب». فاز بالمناقصة، اشترى ثلاث شاحنات، واستأجر عدداً من العمال، وانطلق في جو حار عاصف نحو الميناء، وشرع بالعمل المضني مع عُمّاله.. وكانت تلك أول قطرة من غيث مدرار من الأعمال التي نفذها العلَيَّان لصالح المشروعات البترولية.

وجد العلَيَّان نفسه أمام فرص مقاولة جديدة، لم يكن له بها معرفة، لكنه الثقة بالنفس، والقدرة على التعلم، وسعة الحيلة لديه، جعله يُقدِم، مواجهاً التحديات، مستعيناً بالكوادر المؤهلة، وأخذ عمله ينمو، بشكل لم يكن يتوقعه أبداً، حتى بلغ عدد عماله، أكثر من أربعة آلاف عامل، وبلغ أسطوله من الشاحنات مئة وخمسين عربةً ضخمة. كان التعَلُّم لا يتوقف عند صاحبنا، وهو على رأس العمل، ويرى نفسه، بحاجة إلى اكتساب المزيد من المهارة، في إنجاز عمله، قائماً وسط العاملين في كل مشروع، واصلاً الليل بالنهار، وكأنّهُ يسابق الزّمن، في التَطّوَرَ والتَوَسُع في النشاطات، والتمدد في القطاعات. أصبح سليمان أكبر المقاولين في مشروع خط التابلاين، الذي ينقل النفط السعودي إلى البحر المتوسط، وفاز بعقود تطوير أربع مدن نبتت من العدم بفضل خط التابلاين، هي: القيصومة، ورفحاء، وبدنة، وطريف.

كان سليمان يعلم أن مشروع التابلاين لن يدوم إلى الأبد، وأن عليه أن يؤسس عملاً آخر، مستفيداً من قدرته المالية الناجمة عن عمله المضني في المقاولات، وعلاقاته العميقة داخل أرامكو، ودراسته لاحتياجات السوق، فأسس سليمان شركة للنقل، ثم خرج في جولة حول العالم، زار روما، وباريس، ولندن، ونيويورك، وشيكاغو، وكاليفورنيا، وهاواي، وأستراليا، ووقع عقوداً مع عدد من الشركات الأميركية، ليكون وكيلها بالسعودية. أسس العلَيَّان شركة الغاز الأهلية، وأخذ يحاول إقناع المواطنين باستعمال أنابيب الغاز بدل الفحم والجريد والحطب، ونجح بعد صعوبات في مسعاه! توسعت شركة الغاز، لكنها تعرضت لمشكلات جعلته يقرر التخلص منها، والمضي قدماً.

وتبدّت عزيمة الرجل، وظهر تصميمه وحزمه، حين حاول الحصول على تأمين على حياة عماله من شركة جراي ماكينزي، وحين لم يجد منهم تجاوباً، قرر أن يؤسس بنفسه شركة تأمين، وهو من إذا قالَ فَعَل. نقل العلَيَّان أعماله مطلع الستينيات إلى بيروت، خمسة عشر عاماً، استثمرها في العمل، ولم يكفّ عن تعلم المزيد في عالم الأعمال، واصطياد الكفاءات المتميزة، خاصة من أكاديميي الجامعة الأميركية هناك، ومدّ علاقات عميقة مع الكثير من نخبة المجتمع اللبناني. ولم يكن لهذا النجاح الباهر، أن يخفى على الدولة السعودية، التي أفادت من حنكة العلَيَّان التجارية، بطلب رأيه في بعض القضايا الاقتصادية، وأهلته جدارته ليكون عضواً بمجلس إدارة بنك الرياض، ثم عضواً في مجلس إدارة الخطوط السعودية.

كان العلَيَّان يستيقظ مبكراً، ولا يصرف وقته في غير طائل، ولا يكف عن تطوير نفسه، ولا عن تطوير أعماله المختلفة، وقد استعان العلَيَّان بإحدى الشركات المختصة في الاستشارات التجارية، وساعدته تلك الاستشارة على هيكلة شركاته المتعددة، وتأسيس شركة العلَيَّان السعودية القابضة، التي كانت في أفضل وضع ممكن لأي شركة في السعودية، حين ارتفعت أسعار النفط في السبعينيات الميلادية، ما رفع الإنفاق الحكومي، فالبلاد تضع لبنات تأسيس أركانها.

مسيرة نجاح شاقة، وشيقة أيضاً، لكن فصول نجاحها لم تنته بعد، فقد انطلق سليمان العلَيَّان في مرحلة جديدة من العمل، بعد أن ترك إدارة أعماله في المملكة لأنجاله الثلاثة: خالد وحياة ولبنى، ورافقته ابنته حذام في رحيله لنيويورك، إذ خاض تجربة استثمار طويلة، وناجحة، وضخمة، بدأت براتب 10 دولارات وبلغت قيمة استثماراته بأميركا وأوروبا 8 مليارات دولار.

لم يكن سليمان العلَيَّان مجرد مستثمر سعودي بأميركا فحسب، بل كان بوابةً تعرّف من خلالها الأميركيون على بلاده السعودية، فقد اجتذب الرجل عدسات الصحافة والتلفزة الأميركية، ومن مثله يُحسِن أن يكونَ جسراً بين المشرق والمغرب! كان العلَيَّان عضواً في عدد كبير من مجالس إدارات بنوك أميركا وشركاتها الكبرى. وأضاف لما سبق حضوراً سياسياً، بعضويته في اللجنة الاستشارية، لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، وعضواً في المجلس الاستشاري العالمي لبنك «جي بي مورجان»، وعضواً في مجلس جامعة روكفلر بنيويورك، ورئيساً لمنتدى حوار رجال الأعمال، باللجنة الاقتصادية السعودية الأميركية المشتركة.

قائمة طويلة من عضويات فاعلة ومؤثرة وإيجابية بمجالس الإدارات. عضويات تضيف قيمة لا مثيل لها حيث حَلَّ الشيخ سليمان، رحمه الله. أما بريطانيا فامتلك بها أكثر من عُشر أسهم شبكة الكهرباء الوطنية، وحضرت شركاته بقوة بالسوق الاستهلاكية السعودية بامتلاكها وكالات شركات ضخمة مثل كوكا كولا، ثم مساهمته في تأسيس البنك السعودي البريطاني ورئاسته أول مجلس إدارة له.

في الكتاب الشيق «من عنيزة إلى وول ستريت» يذكر المؤلف بعض سمات سليمان العلَيَّان، التي قادته ليكون ذلك الثري الاستثنائي، فيؤكد على «التصميم على أحادية الهدف»، ويقول: إن العلَيَّان يعيش من أجل عمله الذي يستغرقه استغراقاً تاماً. كما أنه يفوّض الصلاحيات لكفاءات شركاته، دون أن تغيب عنه التفاصيل، من خلال علاقة صداقة عملية كان يخلقها معهم.

عام 2002، وبعد 84 عاماً، من الكفاحات، والتجارب، بينها خسارة، لكنّ جُلُّها مُطَرَّزة بالنجاحات، غادر سليمان العلَيَّان الدنيا، لكنه وَضَعَ بصمة لافتة، إذ عَاشَ، رحمه الله، حياةً حافلة بالنزاهة، ملؤها الاستقامة، تزدهر بالتَعَلُم، والاكتشاف، من المهدِ بعنيزة، إلى اللّحدِ بمانهاتن.

وصدق بيت شعر لبيد: وكذلكَ الزمانُ يذهَبُ بالنا        سِ وتبقى الرسومُ والآَثارُ

* السفير السعودي لدى الإمارات.