تَحُل بنوك أميركا اللاتينية المركزية بالقرب من المقدمة بين باقي البنوك حول العالم، حين يتعلق الأمر برفع سعر الفائدة لتخفيف حدة التضخم في ظل الجائحة. لكنها أيضاً من بين أسوأ البنوك استعداداً لهذه المهمة. ورفعت بضعة بنوك في المنطقة أسعار الاقتراض منذ مارس الماضي. وتجلت المشكلة في الآونة الأخيرة حين نشر أكبر اقتصاديين في المنطقة بيانات جديدة عن التضخم. فقد فاق الرقم الأساسي في البرازيل التوقعات واقترب من 10%، مما أذكى الحديث عن المزيد من الزيادة في سعر الفائدة، بينما يسارع التضخم الأساسي في المكسيك للشهر التاسع على التوالي.

ويرى اقتصاديون أن هناك حدوداً لما يمكن أن يحققه رفع سعر الفائدة بسبب خلفية الظروف التي تجعل أميركا اللاتينية مكاناً غير داعم بشكل خاص لاستخدام السياسات النقدية كأداة للتصدي للتضخم. فهناك قطاعات واسعة من اقتصادياتها خارج نطاق الاقتصاد الرسمي وبها مستويات منخفضة من الإقراض وكثير من الناس ليس لديهم حسابات في البنوك، ولذا يضعف تأثير زيادة كلفة الائتمان على الطلب. والسياسة في هذه المنطقة مضطربة غالباً وأحداثها المتوالية تحجب ما يحدث من تعديلات في سياسة البنوك المركزية عن عيون الأسواق. وبالإضافة إلى هذا، هناك تاريخ حديث إلى حد ما عن التضخم المرتفع يجعل المستثمرين والجمهور حذرين دوماً من ارتفاع الأسعار، خاصة حين تعزز الحكومات الإنفاق، وهو ما فعلته معظم بلدان أميركا اللاتينية أثناء الجائحة.

وأحياناً يضطر محافظو البنوك للضغط على المكابح بقوة أكبر ربما مما أرادوا حين تسير السياسات المالية في الاتجاه المعاكس. ويتعين على بعض السلطات النقدية في أميركا اللاتينية بذل جهد كبير لإقناع المستثمرين بأنهم مستقلون عن السياسيين. وفي كل الحالات، يحرك جانب كبير من موجة التضخم الحالية قوى خارج نطاق سيطرة البنوك المركزية، مثل العراقيل التي تسببت فيها الجائحة لسلاسل الإمداد أو ارتفاع أسعار السلع الأولية. وكل السلطات النقدية في المنطقة تواجه خليطاً معيناً من هذه المشكلات. في المكسيك، التزمت الحكومة بخطة تقشف أثناء الجائحة وبسياسيات مستقرة إلى حد كبير. لكن التضخم ارتفع رغم ذلك مما دفع البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة هذا العام.

ولا يتوقع أن يصل النسبة المستهدفة البالغة 3% حتى وقت مبكر من عام 2023، وربما يتمثل أحد الأسباب في الاقتصاد غير الرسمي الكبير في البلاد. فهناك أقل من 40% من المكسيكيين لديهم حسابات مصرفية في تخلف عن المعدل البالغ 55% للمنطقة إجمالاً وهي نسبة منخفضة في حد ذاتها عن المعايير الدولية. ويضيف الائتمان للأسر والأنشطة الاقتصادية نحو 45% من الإنتاج المحلي الإجمالي للمكسيك، لكن في تايلاند (حصة الفرد فيها من الدخل القومي تشبه نظيرتها في البرازيل) يضيف الائتمان للأسر والأنشطة الاقتصادية 131%.

ومع محدودية قدرة التأثير على الاقتصاد من خلال الائتمان، يضطر محافظو البنوك المركزية غالباً إلى الاعتماد على سعر الصرف. وأسعار الفائدة المرتفعة تجذب المستثمرين الأجانب، مما يرفع سعر العملات ويخفض أسعار الاستيراد. وهذا لا يجدي نفعاً كبيراً حين تغطي التوترات السياسية أو الإنفاق المالي على أي شيء آخر. وفي البرازيل، تعززت العملة بعد زيادة مفاجئة أقرها البنك المركزي لسعر الفائدة بلغت 75 نقطة في مارس الماضي. لكن منذ يونيو، تراجعت العملة مرة أخرى رغم مواصلة البنك زيادة السعر. وظل المستثمرون قلقين من انتهاك محتمل لقواعد الإنفاق، في الوقت الذي يبحث فيه الرئيس خايير بولسونارو تعزيز الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية. وتصاعدت التوترات في الأيام القليلة الماضية في غمرة احتجاجات في الشوارع يحركها بولسونارو وصراع على سلطات المحكمة العليا. وبيرو مثال آخر.

فعلى مدار سنوات كانت من بين البلدان القليلة في المنطقة التي بها ائتمان من الدرجة الاستثمارية (أي منخفض المخاطر نسبياً). لكن البلاد مرت بأسابيع من الاضطرابات بعد انتخابات متقاربة النتائج. وانخفض «السول» البيروفي مما دفع التضخم إلى أعلى قمة في 12 عاماً، ويتوقع محللون عدم استمرار أول زيادة في سعر الفائدة يفرضها البنك المركزي منذ خمس سنوات. وشهدت تشيلي، أغنى دول أميركا الجنوبية وأكثرها هدوءاً، احتجاجات في الشوارع خلال العامين الماضيين. وكانت أيضاً من الدول التي أنفقت كثيراً أثناء الجائحة، وتحاول هيئتها التشريعية إقرار صيغة أخرى من التحفيز عن طريق السماح للناس بالحصول على معاشاتهم مبكراً.

وهذا يفاقم مخاطر التضخم، بحسب تحذير ماريو مارسيل رئيس البنك المركزي الذي فاجأ الأسواق في الأيام القليلة الماضية بزيادة في سعر الفائدة أكثر من المتوقع. وتجاوزت أسعار المستهلك التوقعات في الشهرين الماضيين. وكثير من هذه المشكلات سابقة على الجائحة التي أضرت بالمنطقة أكثر من غيرها من مناطق العالم، إذ فاقمت المشكلات أكثر فحسب. وهذا جعل صناع السياسة يسلكون طريقاً شديد الوعورة. فهناك ضغوط من فوق، أي من الأسواق المالية للحفاظ على سلامة التمويل. وهناك ضغوط من أسفل لمعالجة التباينات الاجتماعية العميقة.

ماريا ألويسا كابورو ومايا أفربوخ*

*صحفيتان متخصصان في الاقتصاد

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»