تسويات ومصالحات توصف بأنها سياسات تبريد لملفات الشرق الأوسط، الذي اعتاد منذ كان على سياسات التسخين. لا يمكن التقليل من أن عملية تبريد واضحة تجري في المنطقة، ولكنها يمكن وصفها بأنها تحمل حركة سيولة سياسية غير معروف مداها، ولا يمكن حتى توقع نهايتها ومآلها.

ثمة حلقة مفقودة في استيعاب كل ما يجري من عملية تسييل لم تكن متوقعة، وتبدو وكأنها طارئة على أجندات دول الشرق الأوسط، يبدو أن الولايات المتحدة ليست المسؤول الوحيد في ما يجري، لأنها هي بذاتها جزء من السيولة الجارية على الصعيد الدولي. فالمشهد يتحدث عن تغيير في سياسات واشنطن نفسها باعتمادها السياسات الواقعية الرأسمالية المرتكزة على تقديرات المكاسب الاقتصادية، ولو على حساب الحلفاء التقليديين.

الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط ليس الوحيد، الذي يمكن أن يفسر جزءاً مما يحدث من تحولات دولية واسعة، فهذا قرار اتخذته واشنطن منذ عهد الرئيس باراك أوباما، كما أن المراجعات الأوروبية حول سياسات الأمن الطارئة لا يمكن اختزالها في أزمة الغواصات الفرنسية، فالمراجعات تنامت مناقشتها منذ أن قررت بريطانيا التوجه للانتخابات الشعبية حول وجودها في الاتحاد الأوروبي. انسحبت بريطانيا من الاتحاد وتشكلت قواعد مستحدثة للعلاقة بينها وبين الأوروبيين. الشرق الأوسط كان يراقب بعيون ما اعتاد عليه فهو المنشغل بإطفاء حرائقه فلقد كان تنظيم «داعش» آخر مشعلي النيران في هذا الشرق.

يتداول المهتمون أن الأميركيين اعتادوا على صناعة عدو إنْ لم يجدوا لهم عدواً يُحفز اقتصادهم، ويوسع نفوذهم حول العالم. تبدو هذه فكرة ساذجة في سياق الواقع والمنطق الذي تفرضه حقيقة الصعود الصيني ليس فقط الاقتصادي بل الصعود الفكري المختلط بين الرأسمالية وسياسات السوق، أي الليبرالية بمقاييس «التنين» كما يمكن أن يكون اصطلاحاً، فهذه صناعة غيّرت من توازنات الاقتصاد العالمي، واستحوذت الصين على حصة كبيرة من الاقتصاد، وأثبتت أنها من خلال ما تملك من الناتج العالمي، استطاعت استقطاب عشرات الدول لمحور هي نقطة الارتكاز فيه. هذه حقائق ووقائع فرضت نفسها على الشرق الأوسط، الذي بدوره يعيش تطورات سياسية ملحوظة بدأت فعلياً من إبرام اتفاقيات السلام الإبراهيمي مع إسرائيل، وفرضت توازنات وحقائق غيّرت القواعد التي فرضت من صراعات القرن العشرين، وتبدو أنها تغيرت أو في طريقها للتغيير الكامل في مطالع القرن الحادي والعشرين.

التحولات السياسية الأوسطية هي جزء طبيعي من سياق حركة التاريخ وتبلور القوى السياسية وقوتها وتأثيرها في محيطها. حجم التغيير يجب استيعابه في سياقات واضحة دون تصلبات وتشنجات، فالعلاقات الدولية ليست قوالب متحجرة لا تتغير.

فحتى تلك العلاقات المعقدة بين الأضداد بدأت تعيد تموضعها بما في ذلك إيران كقوى إقليمية أوسطية تعيش السيولة، ولكن بطريقتها التي اعتاد عليها جوارها العربي. الإيرانيون يقتربون أكثر للقبول بفكرة الواقعية السياسية، فلم تؤدي السياسات الثورية لأكثر من تحويل حلم التوسع إلى اتفاق نووي سيكون خاضعاً لإشرافٍ دولي. ربما يكون جزء من المصالحات الجارية بلا أفق واضح، وهي التي تمثل الخطر، بينما المصالحات القائمة على المصالح ستظل قادرة على التماسك مع مرور أوقات ستشهد المزيد من السيولة السياسية، في ظل تشكل نظام عالمي جديد، لا يمكن التنبؤ بمحدداته، فكيف يمكن التنبؤ بسياسات تبريد شرق أوسط اعتاد على السخونة، واعتاد أكثر على المفاجآت والانقلابات، واستحكام المانشيتات الصحفية على أمزجة قاطنيه.

* كاتب يمني