أمضت ليبيا عاماً ونيّفاً من دون اقتتال، وفي ظلّ وقفٍ لإطلاق النار أمكن الاتفاق عليه بين العسكريّين من شرق البلاد وغربها بإشراف من الأمم المتحدة. وبموازاة ذلك استطاع «منتدى الحوار الليبي» أن يضع خريطةَ طريق لمرحلة انتقالية تقودها «حكومةُ وحدة وطنية» وتعمل على إعادة توحيد مؤسسات الدولة والإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل. ويفترض أن تشكّل هذه الانتخابات الختام النهائي لمراحل انتقالية عدّة مرّت بها ليبيا منذ العام 2011 وتخلّلها اقتراعان أظهرا بوضوح محدودية القبول الشعبي لجماعات الإسلام السياسي، خصوصاً «الإخوانية» منها، لذلك أقدمت المليشيات المسلّحة لتلك الجماعات، غداةَ الاقتراع الثاني صيفَ عام 2014، على فرض حالٍ انقلابية في طرابلس، فوضعت ليبيا في مهب تدخّلات خارجية شتّى، بل عرّضتها لأسوأ السيناريوهات الانقسامية. 
استفادت الميليشيات إلى أقصى حدّ من المحاولات الأممية لتصحيح الوضع عبر «حكومة الوفاق» المعترف بها دولياً وانطلاقاً من «مؤسسات الدولة»، لكن تلك الحكومة وقعت تلقائياً في فخّ سلطات الأمر الواقع، لأن المؤسسات كانت جميعاً تحت سيطرة المليشيات التي استخدمتها لترسيخ وجودها. وإذ يبدو الآن أن ثمّة وضعاً دولياً مختلفاً، تحديداً منذ مؤتمر برلين (يناير 2020)، وأن ثمة حلّاً بُني على أساس «مخرجات برلين» بمساراتها الثلاثة (العسكرية والاقتصادية والسياسية)، ويُراد إنجاحه، بل تُعتبر الانتخابات عنواناً لهذا النجاح، فإن الألاعيب الداخلية والخارجية بلغت منعطفاً حاسماً يتطلّب من أطرافها أن تتكيّف مع وضع جديد يمسّ بمصالحها. لكن هذه الأطراف لا تشعر بأن أدوارها آيلة للانتهاء، لأن استحقاقات داخلية عدّة مطلوبٌ حلّها، وأهمها توحيد المؤسسة العسكرية، سواء لتسهيل إجراء الانتخابات أو الأهم للتمهيد لمرحلة بناء الاستقرار استناداً إلى هذه الانتخابات.
منذ ولادة حكومة عبد الحميد الدبيبة ونيلها ثقة مجلس النواب، مطلع مارس الماضي، كانت توقّعات المحللين بأنها لن تكون «موقّتة» بحسب شروط تنصيبها، مستندين إلى تقديراتٍ أهمها أن الفترة الزمنية المتاحة غير كافية للتحضير للانتخابات، خصوصاً أن العقبات الرئيسية لا ترتبط بإرادة الحكومة نفسها بل بتوافقات خارجية تبدو صعبة لكن ضرورية كي تُترجم بتوافقات داخلية. فالانتخابات لن تكون طبيعية في وجود مرتزقة أجانب وقوات أجنبية، وقد تأخر التطرّق إلى هذا الملف المعقّد، فمؤتمر «برلين 2» انعقد في يونيو ولم يكن حاسماً، ورغم القرارات المواكبة من مجلس الأمن الدولي فإن شيئاً لم يتغيّر على الأرض، وبدت القوى الخارجية المعنية منتظرة الاتصالات الأميركية مع روسيا وتركيا، إلى أن بدأ أخيراً البحث فقط في إخراج المرتزقة، وفي حال التوافق يُفترض ألا يستغرق وقتاً طويلاً. 
ويبقى توحيد المؤسسات العسكرية الخطوة اللازمة والضرورية لخروج القوات الأجنبية، وهو مبدأ أقرّه العسكريون في لجنة 5+5 منذ اتفقوا على وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020. تلقّف المراقبون الرعاية الأميركية لاجتماع هذه اللجنة، للمرّة الأولى في قاعدة معيتيقة في طرابلس، باعتباره مؤشّراً إلى تفعيل عملية توحيد الجيش، خصوصاً أن هذه الرعاية جاءت بعد إصدار الكونغرس قانون «استقرار ليبيا» الذي يدعو إلى دور أميركي أكثر فاعلية في حلّ النزاع الليبي وفرض عقوبات على أي جهة معرقلة. قد يسهم هذا التطوّر في تذليل العقبات الأخرى، كقانون الانتخاب وقاعدته الدستورية، التي يتجاذبها مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. لكن الأهم أن يتقبّل المستفيدون من الحرب حقيقة أنهم لن يحتفظوا بمكاسب حصّلوها في غياب الدولة. 

 

*كاتب ومحلل سياسي -لندن