لا يمكن مقارنة بواريد ورشاشات جعجع بصواريخ «نصر الله» ومسيَّراته ومدفعيته بعيدة المدى. فزعيم «حزب الله» يقول إنّ لديه مائة ألف مقاتل، وهؤلاء هم الجزء اللبناني من المليشيا، فكيف بالكتائب والفرق الأخرى؟ أحد قادة الحرس الثوري قال قبل شهر إنهم أنشأوا ستة جيوش في البلدان العربية للدفاع عن مصالحهم: اثنان في غزة، وواحد في لبنان، وواحد أو أكثر في العراق، وواحد أو أكثر في سوريا، وواحد في اليمن. وجيش «الحوثي» في اليمن هو الذي اختصه جورج قرداحي، وزير الإعلام اللبناني الحالي، بالإعجاب والنصرة، شأنه في ذلك شأن إسماعيل هنية مدير جيش إيران في غزة! أين المسكين جعجع من ذلك كلّه؟ عنده في الأصل تنظيم محلي مسلَّح، المفروض أنه انحلّ عام 1990-1992، ودخل هو السجن عام 1994 حيث مكث أحد عشر عاماً بتُهمٍ مختلفة لفّقها عليه السوريون إبّان سيطرتهم على لبنان، وما خرج من سجن وزارة الدفاع إلا بعد خروج السوريين من لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري عام 2005. منذ ركّزتُ على تحليل مجريات التأزم في الاجتماع السياسي اللبناني في الأعوام الثلاثة الأخيرة، أعدتُ اكتشاف الراديكاليتين الشيعية والمسيحية وتأثيراتهما بالداخل اللبناني.

وقد اعتبرتُ أنّ التيار العوني هو الذي تسلّم زمام الراديكالية المسيحية منذ أواخر الثمانينيات ووجّهها ضد السوريين، إنما عندما خرج السوريون من لبنان، ذهب الجنرال عون باتجاه التحالف مع «حزب الله» (2006)، واعتبر أنّ السنّة هم خصوم المسيحيين باعتبار الصلاحيات التي صارت لهم من خلال رئاسة الحكومة بعد «الطائف». وهكذا فمصلحة المسيحيين هي في الدخول في «تحالف الأقليات» (شيعي مسيحي علوي) بقيادة «حزب الله»، وقد يمكِّن ذلك من العودة إلى ما قبل الطائف وإلى دستور الاستقلال الذي يعطي صلاحيات قوية لرئيس الجمهورية الماروني.

استغرق الأمر 15 عاماً حتى أدرك المسيحيون أنهم أكبر خاسر في اللعبة الداخلية والخارجية. كسب عون وصهره عدة مئات من الموظفين في جهاز الدولة المتهالك على حساب السنّة. أما السلطة الفعلية فصارت كلها بيد «حزب الله»، بما في ذلك المرافق الرئيسية كالمرفأ والمطار والحدود مع سوريا. وتحت وطأة العزلة التي فرضها الحزب ومحوره على لبنان، مع تناهُب الثروة الوطنية من جانب عون وأنصاره، والحزب وحلفائه في لبنان وسوريا، حصل الانهيار الفظيع، كما حصل تفجير المرفأ، وبينهما ثوران الشبان المسيحيين والمسلمين عام 2019 على الحزب وعلى عون وعلى المنظومة السياسية الخاضعة لهما. في العامين 2018 و2019 قدّرتُ في عدة مقالات، هنا بـ«الاتحاد»، أن الراديكالية الشيعية سوف تستنهض راديكالية مسيحيةً بعد أن تحطم وقع وواقع العونية التي اصطنعت خصماً سنياً لا يمتلك عصبيةً ولا سلاحاً.

وقدّرتُ أنّ جعجع هو المؤهل لذلك، وحذّرتُه في مقالاتٍ متوالية من اللجوء إلى الأطروحات المسيحية البحتة، ومن مغادرته الشركاء السنّة. وردَّ عليّ القواتيون بشراسة واستعانوا بأصدقاء مشتركين.بعد حدث الطيونة والذي سقط فيه سبعة قتلى وعشرات الجرحى، وجرى استدعاء جعجع للقضاء العسكري، وقف المسيحيون اللبنانيون جميعاً، وعلى رأسهم البطريرك الراعي، مع جعجع، فصار البطل المسيحي مجدداً، محل بشير الجميل. أما أنا فبقيت مع القول العربي: الدم يستسقي الدم! ومن جديد: لا سلام في لبنان!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية