أحداث السودان مثيرةٌ هذه الأيام، ولا تخطئ العين أن الإعلام السياسي العربي يمرّ بمرحلة كاشفة، تعيد للأذهان أسوأ مراحله والأدوار التضليلية التي مارسها إبان ما كان يعرف بالربيع العربي 2011 تجاه ما يجري في السودان 2021، والمتابع لأغلب تغطيات وسائل الإعلام العربية مسموعة ومرئية ومكتوبة يجد نفس المفردات وذات التهييج، حيث فقدان الموضوعية والانتقال من نقل الخبر إلى التحريض. قبل عشر سنواتٍ كان «أوباما» يبشر بزوال الأنظمة العربية ويدعم وصول «جماعة الإخوان» إلى السلطة، وسارت وسائل إعلامية عربية كبرى في ركابه، هاجم «أوباما» العسكر فهاجمها «الإخوان» فهاجمتها تلك الوسائل الإعلامية. كان بعض المذيعين والمعدّين والصحافيين والكتّاب يرددون بحماسة ودون وعيٍ التشكيك في العسكر والتماهي مع خطاب «جماعة الإخوان» وحقهم في الحكم.

اليوم وبعد عشر سنواتٍ، المشهد يعيد نفسه، في السودان هذه المرة، نفس اللغة وذات الأداء، حتى أن البعض يظهر حماسةً غير مبررةٍ، بلغة الجسد المتحفزة وعبارات التحريض ومقاطعة أي رأي مخالف وقطع أي فكرة لا تدين ما جرى، وكأن هذه الوسائل شريكٌ فيما يجري، وليست ناقلاً يفترض فيه المهنية والاحترافية.

كادت مصر أن تذهب أدراج الرياح، لولا الموقف التاريخي والحازم للسعودية والإمارات، الذي دعم «الجيش المصري» وشعبه في إقصاء الإخوان واستعادة الدولة المصرية ورفض التدخلات الأجنبية، وقامت بعض تلك الوسائل الإعلامية بإصلاحات كبرى وعادت للاعتدال والمهنية ودعمت إنقاذ مصر وعودتها للحضن العربي. لنتذكر ما جرى في السودان قبل سنواتٍ معدودةٍ، فمن أنقذ السودان هو «الجيش» و«الأمن» و«العسكر» من حكم «البشير» الذي دام لثلاثة عقودٍ، وليس القوى المدنية وتياراتها، هذه حقيقة، وما جرى ضد البشير هو «انتفاضة» دعمتها كل القوى المدنية وكل الدول العربية وتم الاعتراف بنتائجها دولياً، وقام مجلس السيادة الذي يقوده «عبدالفتاح البرهان»، ولا زال هذا المجلس قائماً يمارس دوره المناط به والمعترف به.

اختار «البرهان» تعيين «عبدالله حمدوك» رئيساً للوزراء، وأدى «حمدوك» اليمين أمام «البرهان» واليوم رأى «البرهان» أن «حمدوك» لم يستطع إنجاز المهام الموكلة إليه وسيقوم بتعيين غيره لإكمال المهمة، وهذا أمرٌ طبيعيٌ جداً ولا يستحق أي شيء من هذه الجلبة الإعلامية المفتعلة. الشرعية السياسية في السودان هي لـ «مجلس السيادة» وليست لأي شخصٍ آخر مهما كان متميزاً أو ناجحاً، وبالتالي فـ «مجلس السيادة» يؤدي مهامه باستمرارية، ويحافظ على وحدة وسيادة واستقلال وأمن السودان، و«حمدوك» في منزله ويجري اتصالاتٍ بوزير الخارجية الأميركي ويتواصل مع العالم.

هذه حقائق باردةٌ ومعلنةٌ، لا تحتاج شرحاً، وهي تعرّي هذا الهياج الإعلامي العربي غير المبرر وغير المتزن، وبعض هذه الوسائل الإعلامية ليست معنيةً بمصير شعبٍ كاملٍ وأمنه وتنميته ونجاحه، وهي جناية تاريخية وإنسانية. السعودية والإمارات تدعمان الاستقرار والحوار والتهدئة، وتدعمان السودان حكومةً وشعباً، وهما داعمان كبيران لكل ما تحقق من إنجازات في السودان، وهاتان الدولتان أنقذتا عدداً من الدول العربية إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي»، وهما تقومان بالدور نفسه اليوم.

الأمور واضحة ومنطقية، والتعامل معها بواقعية وعقلانية سهلٌ، فلا يوجد أي داعٍ لهذا الهياج الإعلامي التحريضي المتواصل والمكثّف، وليس عذراً لمؤسسات إعلامية محترمة أن تنساق خلف صيحاتٍ يطلقها الإعلام اليساري الغربي دون مهنية واحترافية تمنع الانجرار الأعمى خلف من لا تعنيه الدول العربية وشعوبها. أخيراً، فالتماهي بين خطاب بعض وسائل الإعلام العربية وبين خطاب «جماعة الإخوان» يثير الريبة حقاً، هل هذه الوسائل عاجزةٌ عن الرؤية لهذه الدرجة؟ هل هي مجبرةٌ على مواقف تحريضية بهذا الشكل العجيب؟ وكما جرى سابقاً سيجري اليوم، وستعود للمهنية وإن بالطريق الصعب.

* كاتب سعودي