تبدع البشرية - على كل تطورها الخرافي اليوم- في ابتكار ما يهين إنسانها تحت مختلف المسميات والظروف والأسباب. كانت الحروب دوماً منذ بدء التاريخ التجلي الأكثر وضوحاً لاستباحة دم الإنسان من قبل أخيه الإنسان، وفيها ومعها نشأت تجارة السلاح، التجارة التي كبرت وتعاظمت بحجمها حتى صارت الطرف الخفي خلف الستار لإطالة أمد الحروب. الحروب لم تعد تكفي على ما يبدو لزيادة ثروة بعض البشر، فأنتجت البشرية وبدعم أنظمة دول مستبدة تجارة أخرى وكان آخرها تجارة «الهجرة غير المشروعة» واللجوء الإنساني الذي صار يخلو من إنسانية في منطلقاته. صار اللاجئون بحياتهم، السلاح الذي تستخدمه بعض الدول كورقة سياسية ضاغطة وما خلف الستار مستفيدون من قراصنة «حياة» ابتكروا وأبدعوا في تلك التجارة طرقاً تزيد من ثرواتهم على حساب بشر، وكلما كانت الحدود ملتهبة كانت الثروة أكبر.

تجليات تلك «الصناعة» المستجدة وليست بالجديدة شهدناها في الأزمات السورية والعراقية والأفغانية، وها هي تتبلور إلى حالة «تجارية» لها منظموها وعرابوها وبتواطؤ «ضروري» من أنظمة توظفها لتنفيذ أجندات سياسية لصالحها، كما نرى اليوم في أزمة اللاجئين على حدود بيلا روسيا مع أوروبا (بوابة بولندا).

تنفي «بيلاروسيا» أي تواطؤ في جلب اللاجئين وحشرهم على حدود أوروبا، لكن الصحافة العالمية الحرة كانت على الحدود والتقت لاجئين مسحوقين في تلك الأزمة، عبروا الحدود وكثير منهم أفاد بأن بيلاروسيا سهلت إجراءات منح التأشيرة، التي لم تستغرق في بعض الحالات أياماً معدودة لجلب اللاجئين الباحثين عن أي قشة تنقذهم من الغرق في اليأس، ثم قذفهم على الحدود مع بولندا بل وتزويدهم بأدوات قاطعة للأسلاك الشائكة.

نحن هنا أمام تجارة متكاملة مع منظومة خطوط تزويد لوجستية يستفيد منها «أهل الصنعة» على حساب حياة بشر. أكبر أعداء تلك التجارة الدموية البشعة هم أهل السلام، المؤمنون به، تلك الجماعات والدول، التي تسعى جاهدة لابتكار حلول في احتواء الأزمات، تلك التي تحمل بلا تردد رسالة التسامح والسلام والأخوة الإنسانية. الشر يزدهر حين يصمت الطيبون، تلك قاعدة أزلية وما تزال فاعلة.

والبشرية في كل تطورها التكنولوجي لا تزال عاجزة أمام جيوب الشر التي استمرأت تحصيل الثروات عبر طرق شيطانية يكون ضحيتها الإنسان، قرباناً على مذبح الثروات الخرافية المغموسة بالدم. ألم يحن الوقت للبشرية أن تعود إلى نفسها وتنتبه إلى أزماتها التي تواجهها ككوارث وشيكة؟ التسامح كلمة بسيطة وستبقى في حدودها الإنشائية من دون إيمان يقيني كامل بها، وهي عملية صعبة لكل متطرف عصبوي يعتقد بأهميته فوق الآخرين، التسامح كلمة لا يمكن تفعيلها من دون إلغاء مفهوم الإقصائية التي تبخس البشر الآخرين.

طالما هناك «آخر» فهنالك مشكلة، فليكن أي منا الآخر للحظة واحدة ويقيس على نفسه تلك المعاناة التي يمكن أن يعيشها وهو «الآخر» نفسه. قلنا مرة ونكررها، عام التسامح الإنساني الذي انطلق من الإمارات، مبادرة عالمية أممية يمكن البناء عليها من جديد عبر قنوات السياسة والدبلوماسية وتفعيلها يحتاج أن ترتقي إلى أن تصبح حالة مستمرة غير مقيدة بتوقيت عام واحد فقط. ربما نحتاج إلى عقد كامل من العمل على التسامح وترسيخ مضامينه الإنسانية.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.