نقل التنوخي في كتابه: (المستجاد من فعلات الأجواد)، أن عبداالله بن الزبير رضي الله عنهما كان له أرض له عبيد يعملون فيها، وإلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضاً عبيد يعملون فيها، فدخل عبيد معاوية في أرض ابن الزبير، فكتب عبد الله كتاباً إلى معاوية يقول له فيه: أما بعد، يا معاوية: إن عبيدك قد دخلوا في أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام.

فلما وقف معاوية على كتابه، وقرأه دفعه إلى ولده يزيد، فلما قرأه، قال له معاوية: يا بُني ما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إليه جيشاً، يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه. فقال: بل غير ذلك خير منه يا بُنَّي. ثم أخذ ورقة، وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير، يقول فيه: أما بعد، فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها هينة عندي في جنب رضاه. نَزَلتُ عن أَرضي لَكَ فَأَضِفها إِلى أَرضِك بما فيها من العبيد والأموال والسلام.

فلما وقف ابن الزبير على كتاب معاوية، كتب إليه: قد وقفتُ على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أَعدَمَهُ الرأيَ الذِي أَحَلّهُ مِن قريش هذا المَحَل والسلام. قرأ معاوية كتاب عبد الله بن الزبير، ثم رمى به إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه، وأسفر، فقال له أبوه: يا بُنَيَّ مَن عَفَا سَادَ، وَمَن حَلِمَ عَظُمَ، وَمَن تَجَاوَزَ استَمَالَ إليه القلوب، فإذا ابتُلِيتَ بِشَيءٍ من هذه الأدواء فداوه بمثل هذا الدواء. هذه الحِكاية البالغة الدلالة، العميقة الأثر، لو لم يجَنَح فيها معاوية، للتسامح، وهو، حينها، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، لما انقلب حنق ابن الزبير إلى إجلال واحترام وولاء.

لقد تسامح معاوية في هذه القصة، وكان بإمكانه أن يجد من المسوغات أكثرها، ليَرُدَّ الغلظة بالقَسْوَة، والجفوة بجفاء أشد، والحِدَّة بالبطش، لكِّن وَعيَه، وحِكمته، وسداد رأيه، ورجاحة عقله، ذهب به إلى التسامح، فحَصَدَ جميل ما بَذَرَهُ ثمراً طيباً يانعاً. أيها السادة الكرام، مَن ظَنَّ أَنَّ التسامح تَرَفٌ لا ضرورة، مستحب مندوب، لا فرضٌ ثابتُ الوجوب، فقد أخطأ في حَقِّ نَفسِه، قبل أن يخطئ في حَق غيره.

ففي ممارسة التسامح بُلوْغٌ لمراتب عاليةٍ من الرُقِيِّ والسُمُو، وهو ما يحقق الانشراح، ويملأ الصدور بالارتياح. ولئن استند المتطرفون من بني جلدتنا على بعض التراث، سواءً أكان استدلالهم صحيحاً، أو كان لوياً لأعناق النصوص، وهو الأغلب، فإن في تراثنا من قصص التسامح، ونماذج التعايش، ما يُبهج الخاطر، ويِسُرُ الناظر.

يقول غوستاف لوبون (1841-1931)، الطبيب، والفيلسوف، والمؤرخ الفرنسي الشهير، في كتابه (حضارة العرب): «استطاع العرب أن يُحوّلوا إسبانيا، ماديًّا وثقافيًّا، في بضعة قرون، وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوروبية، ولم يقتصر تحويل العرب لإسبانيا على هذين الأمرين، بل أثَّروا في أخلاق الناس أيضًا، فهم الذين علَّموا الشعوب «النصرانية»، وإن شِئت فقُل حاولوا أن يعلّموها، التسامح، الذي هو أثمن صفات الإنسان، وبلغ حِلْم عرب إسبانيا، نحو الأهلين المغلوبين، مبلغًا كانوا يَسمحون به لأساقفتهم أن يَعقدوا مؤتمراتهم الدينية، كمؤتمر إشبيلية «النصراني»، الذي عُقِد في سنة 782، ومؤتمر قرطبة «النصراني»، الذي عِقد في سنة 852، وتعد كنائس النصارى الكثيرة، التي بنوها أيام الحكم العربي، من الأدلة على احترام العرب، لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم».

ويضيف: «كانت أخلاق العرب في أدوار الإسلام الأولى، أرقى كثيرًا من أخلاق أمم الأرض قاطبةً، (...) وكان عدلهم واعتدالهم ورأفتهم وتسامحهم، نحو الأمم المغلوبة، ووفاؤهم بعهودهم، ونبل طبائعهم، مما يستوقف النظر ويناقض سلوك الأمم الأخرى، ولا سيما الأمم الأوروبية، أيام الحروب الصليبية».

أفلا يَسَعُنا نَهجُ مَجْدٍ بَنَاهُ أجدادُنا بالتسامح، خصوصاً وقد بدت الحاجةُ إليه اليوم أَشَدُ، وضَرُورَةُ ممارسته الآن أَحَد؟!

* السفير السعودي لدى الإمارات.