هجرتي التي أعيشها في موطني الأوروبي الجديد (بلجيكا)، سبقتها هجرة لم تكتمل (باختياري الشخصي) إلى الولايات المتحدة مطلع الألفية الحالية.

لكن، تلك الهجرة غير المكتملة كانت وافرة التعليم والتثقيف لشرق أوسطي قادمٍ من مجتمعات محافظة وصحفي شاب آنذاك يحاول تلمس الفهم لكل ما هو حوله. تم إدراجي، بلا شك، رقماً بين ملايين يتم فرزهم وإحصاؤهم للقادمين الجدد إلى أميركا، سواء مهاجرين أو مقيمين أو زائرين في الإحصاء الرسمي الذي تعتمده الدولة الأميركية منذ عام 1820.

وقد تم فيه توثيق كل ما يتعلق بكل القادمين إلى العالم الجديد اغتراباً أو هجرة أو زيارة، بدقة بالغة. في تلك الإحصائية التي أملك نسخة أرشيفية منها للفترة الممتدة بين عامي 1820 و2016، أقرأ أنه في عام 1820 استقبلت الولايات المتحدة وافدين جدداً للإقامة والعمل والهجرة ما مجموعه 8.385 إنساناً، بينما في عام 2016 كان المجموع البشري القادم للعالم الجديد من كل العالم القديم بأجناس وقوميات وأديان ومعتقدات مختلفة مليوناً و183 ألف إنسان.

بعد خمسينيات القرن الماضي، وبلورة الولايات المتحدة لـ«الحلم الأميركي»، الوردي صارت تلك الجغرافيا في العالم الهدف الرئيسي للهجرة منذ عام 1961، ومنذ ذلك العام صارت أميركا تحمل عبء خمس الهجرة في الكوكب. الهجرة (والاغتراب للعيش أو العمل أو اللجوء) كانت كلها دوماً جدلاً عميقاً في الدولة الأميركية (كما في أي دولة) مرتبطة جميعها بالاقتصاد المحلي والتجاذبات الدولية والأمن الوطني ومفاهيم حقوق الإنسان.

لن أخوض أكثر في الأرقام التي تحويها الإحصائيات على دقتها وأهميتها، لكن تلك الأرقام تعطي قراءات مهمة تحسم كثيراً من الالتباسات التي تخلفها الحوارات والمواقف السياسية، هي أرقام لا تكذب، ولا تتحمل أدنى حد من الالتباس أصلاً. لكن سأختصر بآخر قراءة إحصائية لها دلالاتها تفيد بأنه في عام 2016 ومع بداية إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (وهي الإدارة التي أثارت الجدل بموضوع الهجرة واللاجئين) فإن عدد المهاجرين من أصول أجنبية إلى الولايات المتحدة في ذلك العام من كل زوايا العالم بلغ مليوناً و183 ألفاً من البشر.

أكبر نسبة منهم كانت من الهند ثم الصين! ماذا يعني كل ذلك؟ ببساطة، يعني ذلك أن الهجرة تستمر بتصاعد، ولم تتوقف. الحراك البشري بكتله الضخمة يبحث عن العيش الكريم والكرامة الإنسانية في أي مكان يوفر له ذلك. لكن، نحن لا نتحدث هنا عن كتل بشرية صماء، بل هي تفاصيل إنسانية بالغة التعقيد والتشابك في الهويات والمعتقدات والأفكار والأهداف، مما يعني أن تلك الزحزحة البشرية الهائلة ومع تعقيدات الحياة في حاضرنا الراهن، لها أثمانها وكلفها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.

وتحتاج إلى ضوابط لتقنينها وتنظيمها فلا تحدث خلخلة في توازنات المجتمعات المستهدفة بالهجرة، وهو ما يمكن اختصاره بالاندماج والقبول. الاندماج هو بالضبط قبول كل تلك الكلف المطلوبة من المهاجر، وهي كلف اقتصادية ونفسية واجتماعية وسياسية، وهي بمثابة توقيع المهاجر على عقد غير مكتوب بقبول كل تلك الكلف ضمن ضوابط وقوانين المجتمع الجديد. الاندماج، هو حسم حالة الاغتراب كحالة معلقة بين البقاء أو العودة لصالح البقاء النهائي ثم التجذر في تلك الجغرافيا الجديدة.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.