التوافق مع تركيا وإيران وإسرائيل في آنٍ خيار جريء لدولة الإمارات، ولديها من الخبرة والتجربة على أرضها ما يخوّلها ويمكّنها من إدارته على مستوى الإقليم. وككلّ توجّه جديد ووسطي لا يخلو من صعوبات ومخاطر، لأنه من جهة يضع مشاريع الدول الأخرى أمام اختبار رسم حدود لمصالحها إزاء مصالح الآخرين، ويتصدّى تلقائياً من جهة أخرى لمهمة تأسيس تفكير مختلف في الشأن العربي لا بدّ أن يستدرج في المقابل تفكيراً مختلفاً في شأن المنطقة ومجتمعاتها. فالتقارب والتصالح وخفض التوتّرات تتمّ بين مختلفين يرومون تغيير الواقع، ولها أصولٌ وقواعد تعرفها الإمارات جيداً ولا حرج لديها في اتّباعها، وتتوقّع أن تُقابَل بالمثل، إذ إن اللعب النظيف على الجانبين يعود عليهما بالنتائج المريحة المرجوّة التي يمكن البناء عليها.
لا شك في أن تغليب المصالح الاقتصادية على الخلافات السياسية كان وما يزال من أهم عناصر نجاحات الدول الغربية، أولاً في الحفاظ على أمنها وصون اقتصاداتها ورفاهية شعوبها، وثانياً في ضمان قوتها وقابليتها لنشر نفوذها. ودائماً ما نرى أن الدول الأخرى، الكبرى والأصغر، تتطلع إلى انتهاج هذه القاعدة لتتخلّص من الحواجز والعقبات التي تنصبها النزاعات السياسية وتناقضاتها، وغالباً ما لا تجدي نفعاً في حلّ القضايا موضع النزاع، ولا في تأمين استمرارة للتنمية سواء محلياً أو في الجوار. وفي العقد السابق كان واضحاً أن النزاعات زادت استعصاءً على استعصاء، وليس فقط في العالم العربي، بل لعلّها آخذة في التعمّم مستخرِجة أسباباً تاريخية كان يُظَنّ أنها طويت. وعندما يقال إن الإمارات تسعى إلى «تصفير المشاكل» في علاقاتها الخارجية، فهذا ليس جديداً عليها، وإنما هو في نهجها وتراثها، ولا تجد أي صعوبة في اعتماده.
المعروف أن الإمارات دخلت على خطّ بعض الأزمات العربية مضطرّةً، انطلاقاً من متطلّبات أمنها القومي، وخصوصاً لاستشعارها خطورة استشراء التيارات الظلامية المتنكّرة بالدين الإسلامي لأغراض التسلّط أو تلك المعتنقة للعنف والتطرف في خدمة دول ذات أجندات شرّيرة، وطرحها نفسها كأنها القوى التغييرية البديلة والمنتظَرة. لم تتصدّ الإمارات وحدها لهذه الظاهرة، بل مع مصر والسعودية ودول أخرى استشعرت الخطر أو عانت من سوءات الإرهاب وداعميه. ومع أن هذا الخطر لم يُزَلْ نهائياً إلا أن مؤشّرات تراجعه صارت واضحة ومؤكّدة، فجماعة «الإخوان المسلمين»، مثل فروعها، تمر بأزمات داخلية ومرحلة تراجع تفرض عليها الانكفاء وإعادة النظر في علاقتها بالمجتمعات التي منحتها فرصاً عدةً لكنها باتت تنقلب عليها.
لذلك حانت لحظة العودة إلى دعم الاعتدال وتظهيره أينما بدا ذلك ممكناً، حتى لدى مَن هم على النقيض أو مَن لا تزال لديهم أوهام عالقة من مغامرات سابقة أو حالية. والإمارات شريك أساسي وسبّاق في هذا التوجّه، بل إن هذا هو دورها الطبيعي، المؤهّلة لترويجه، ولها فيه ريادة. والأكيد أن «تصفير المشاكل» لا يعني التخلّي عن أي دور، إنه على العكس يأتي لصاحبه بـ«أم الأدوار» ويلقي عليه بمسؤولياتها، لا سيما أن المنطقة والعالم العربي يتناقص فيهما المعتدلون والوسطاء. ولعل التوافقات الإماراتية مع دول الإقليم تطلق ديناميات إيجابية متعددة الاتجاه، فالمنطقة تحتاج إليها للخروج من نفق صراعات ينهك شعوبها حاضراً ويقلقها على مستقبلها، ولا من يتحمّل المسؤولية أو يسعى إلى حلول. 

كاتب ومحلل سياسي -لندن