تبرز حضارات وتنهار حضارات، تتقدم دول وتتراجع أخرى.. والمعيار الحقيقي هو القوة السياسية لهذه الدولة أو تلك وذكاؤها في طريقة إبراز نفسها أو العكس. وتصنع القوى الناعمة اليوم فارقاً كبيراً في صعود بعض الدول في مجالات أخرى غير السياسة، والمحرك الرئيسي بالطبع هو وسائل التقنية الحديثة التي قرّبت البعيد وجعلت العالم يدور في فلك واحد بوسائل مختلفة.

وتعد كوريا الجنوبية من الدول التي برزت في السنوات القليلة الماضية بحكم قوتها الناعمة التي اجتاحت العالم حتى أصبحت ثقافة «الهاليو» مؤخراً الكلمة الأبرز عالمياً، وهي تعني حرفياً «الموجة الكورية».

حتى أن هذا المصطلح أُضيف لقاموس أكسفورد للغة الإنجليزية ضمن 20 كلمة كورية مما يلقي الضوء بشكل لافت على المد الثقافي الكوري الذي يشهد صعوداً متواصلا في مختلف أنحاء العالم.

وقد اجتاحت هذه الثقافة العالَمَ بأسره من خلال الموسيقى الشعبية الكورية أو ما يعرف بـ«كي بوب» و«كي دراما»، هذا فضلاً عن بعض الصناعات الكورية؛ كالسيارات والأجهزة والهواتف المحمولة، بينما تلعب الموسيقى والفرق الموسيقية الكورية والدراما بكافة أنواعها (أفلام ومسلسلات وعروض مسرحية) دوراً فاعلاً في تقديم الثقافة الكورية للعالم بكل سلاسة، لدرجة أنها اخترقت منطقة الخليج العربي وأصبحت فرق «الكي بوب» من أكثر الفرق انتشاراً وشعبيةً بين فئة الشباب، بل تجاوز الأمر إلى تعلم اللغة الكورية وإجادتها لدى بعض فئات الشباب والشابات في منطقة الخليج.

أما الدراما الكورية فحدّث ولا حرج، حيث تصعد المسلسلات الكورية بشكل يثير التعجب على منصات التطبيقات العالمية كمنصة نتفليكس وغيرها. وهنا يجدر بنا الحديث عن صدارة الدراما من خلال مسلسلات «دموية» هي الأعلى مشاهدةً على قائمة المسلسلات على هذه المنصة العالمية، كمسلسل «سكويد قيم» الذي يحظى حتى اليوم بأعلى المشاهدات وبملايين المشتركين حول العالم، ويسجل أرقامَ مشاهدة قياسية منذ إطلاقه، إذ يعرض قصةً حول لعبة مسابقات بسياق وحشي الخاسر فيها ميت بطريقة صادمة يشترك خلالها 456 شخصاً غارقاً في الديون والإحباطات الاجتماعية، تتاح لهم فرصة الفوز بنحو 39 مليون دولار بشرط الفوز في سلسلة من ستة ألعاب متتالية وفي مكان خفي ومغلق!

والمهم في الموضوع هو الشعبية التي حظيت بها الدراما الكورية التي لم تكن معروفة منذ زمن ليس ببعيد، وهذا في تقديري نجاح يحسب للكوريين في تثبيت أقدامهم على الرقعة العالمية من خلال استغلال وسائل التقنيات الحديثة بذكاء لنشر ثقافتهم وتعريف العالم بجغرافية بلدهم وتاريخه وتضاريسه وتقاليد شعوبه.

وتمتلك منطقة الخليج تاريخاً عريقاً، وتراثاً جميلا وتقاليد وموروثات جاذبة وضاربة في عمق التاريخ البشري، وكنوزاً طبيعية لا تحتاج سوى تآزر الجهود لإبراز هذه الموروثات ونشرها بطرق مناسبة تتواءم وعمق تاريخنا ومكانة منطقتنا التي اشتهرت كل بقعة فيها بمهنة وموروث؛ فللبحار والصيد واللؤلؤ حكاية، وللصحراء والرمال حكايات، وللجبال وسفوحها وتباين مناخها حواديت وحزاوي، ولكل شعب أزياء وألوان وأطباق ورقصات وأهازيج وغناوي وعبق ممتد عبر التاريخ يشكل ألف قصة وحكاية.. هذا فضلاً عن قصص تأسيس كل منطقة بسلميتها أو بمعاركها وبطولاتها وملاحمها.

وهذه هي «قوتنا الناعمة» التي تستحق العمل الدؤوب لاختراق العالم من خلالها، فمنطقة الخليج تبرز الآن من خلال مواكبة العالم في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والطاقة والفضاء والعلم.. إلخ، لكن ينقصنا فقط تعريف العالم بثقافاتنا الجميلة، وما معرض «اكسبو 2020 دبي» العالمي المقام حالياً على أرض الإمارات سوى تجسيد للقوى الناعمة التي نتمنى أن تتكرر وتتطور وتتوسع مستقبلاً.

*كاتبة سعودية