تمتعت العصور الإنسانية القديمة، بوضوح وبساطة لم يعد من الممكن تحقيقها في عصرنا الحالي، سيما أن العصر الحجري، أو البرونزي، أو الحديدي، وجد فارقاً يفصله عن غيره من المراحل، بما ذُهِلَ أهله من اكتشافات، أو عُرِف عنهم من استخدامات، وهذا الأمر الذي لا يمكن تحقيقه في عصر التناقضات المتوالدة بسرعة غير متوقعة.

وفي أقل تقدير فإن هذا العصر الذي يعيش فيه البشر ضمن دائرة لا يتوقف مدارها عن الدوران، هل يمكن أن نسميه بعصر الكمامة، أم عصر اللقاحات، أم عصر الرقمنة، أم المتحورات، أم تطاحن القوى والاقتصاديات، أو غيرها الكثير من الارتباطات التي حازت ملمحاً بارزاً ينطلق إلى مضمار الواقع لمجرد استيعاب آنيتنا في هذا العصر الزاخر بالملامح المفاجئة، التي تسببت في إحداث العديد من التغيرات في السلوك الفكري والثقافي، كما آلت لإحداث العديد من الانهيارات التي كانت فيما قبل تتمسك بقشة نجاتها، ومنها الـ«انهيار الاجتماعي» الحاصل على مستوى عالمي، وهذا ما يطرحه الواقع من جهة، ويعترف به متخصصو المجال من جهة أخرى، إذ يصف (نيلز ماركوردت) رئيس تحرير مجلّة «فلسفة»، ذلك الانهيار غير المتوقع، بأنه وبالرغم من كونه سينتهي في مرحلة ما، إلا أنه سيخلف وراءه تداعيات للأحداث المتسارعة التي صدمت أفراد المجتمعات، من فقدان لأقاربهم، وخسارات في وظائفهم، وتجاربهم الجديدة لأنماط العيش، والتي تعتبر بحد ذاتها، سبباً يجزم باستحالة عودة الحياة لما كانت عليه في السابق، مع دخولها حقبة «التحوّلات الاجتماعيّة»، هذا إذا ما وقفنا عند المجال الاجتماعي وحسب.

وفي هذا السياق، فإن أولى ما يتبادر لأذهاننا، التساؤل عما إذا كانت هذه الطوارئ المتلاحقة، بداية لنظام عالمي جديد بحق، أم هي «هدنة رحيمة» من العالم قبل الجائحة، إذ إن كافة الإشكاليات والملحات كيفما دارت تبقى متعلقة بالسلوك الإنساني، القيمي الأخلاقي، باعتباره «حبل السرة»، الذي تعتمد على قوته وعمره تقدم المجتمعات الإنسانية، وسموها، إذ إن ما تمليه علينا التحولات من فواجع متعلقة بالبيئة، أو بالنظام الصحي، أو الاقتصادي، لا تنفي اشتعال مطاحنات على صعيد مناظر لها من صراع بقايا الثقافات القديمة، مع الجديدة المعاصرة، وصراع انتصار الرقمي على المحسوس، والملموس، وصراع الحضارة مع التخلف، وصراع الهمجية، مع العقلانية. سيما أن هذه «المراسي» التي تنطلق بمخصوص الإنسان وأقرب خصوصياته، تشكل بنياناً داعماً لكافة ما يلحقها من عمران معنوي ومادي.

فالبشرية التي باتت تعتبر الآخر «عامل خطر على حياتها» ليس بمقدورها تجاوز حقيقتها، فهي كلما ارتقت التقت، وكلما تباعدت في معياريتها الأخلاقية كلما تصارعت ونزعت نحو الانغلاق والعزلة، وهذا العالم بعد أن وضع «عنوةً» تحت مجهر الجائحة المفترسة كوفيد-19، تعلم درساً - نرجو ألا ينساه - من إلزامية شحذ الإرادة الإنسانية، وتحقيق التقدم في الضمير الإنساني والوعي بالمسؤولية ومنهجية التعامل مع الآخر، وبخاصة في الطور المتقدم الذي يهرول فيه العالم نحو حافة العبور لمرحلة جديدة، لا مكان فيها لملامح العالم قبل عصر «الكمامة»، فهل ستمنح البشرية بحبوحة من الوقت لإنجاز كل ما يلزم؟

إن الإنسان وإنسانيته المتعبة يستحقان جرعةً كافية ومدعمة من الأمل، تماماً كما تسعى الحكومات لإشباع جهاز مناعته باللقاحات والعقاقير المقاومة لافتراس فيروس كورونا ومتحوراته، ورغم عوز الإنسان للغة التفاؤل وبث السعادة والطمأنينة، إلا أن عين العقل لا يمكن تغاضيها عن حاجته في ذات الوقت للوصول للتفكير الناضج، والوسائل الناجعة، التي لا يمكن قبول تأخرها البتة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة