ما أثبتته حادثة العدوان الآثم على أبوظبي ومِن قَبلها الاعتداءات على الأحياء المدنية في السعودية، هو ضرورة قطع الطريق أمام تحكم المليشيات السياسية المسلحة في عالمنا العربي. بدأ المسار قبل سنوات في لبنان من خلال تنظيم «حزب الله» الذي أصبح يحتكر العنف في هذا البلد الذي مر بمرحلة طويلة من الفتنة الداخلية والحرب الأهلية.

وقد أثبتت تطورات الأحداث اللاحقة خطأ الحفاظ على سلاح التنظيم باسم «المقاومة»، بحيث غدا القوة الوحيدة المهيمنة على مركز القرار ودوائر السلطة.

ولقد جرت محاولات متكررة لاستنساخ هذه التجربة في العديد من البلدان العربية الأخرى، في سياق تحلل وانهيار الدولة الوطنية.

وقد قامت الدولة العربية الحديثة على أربعة مرتكزات كبرى منذ قيامها: - الدور المحوري للمؤسسة العسكرية في بناء الدولة ونظام سيرها المؤسسي، بحيث نجحت هذه الدولة في بسط الأمن الداخلي في المجتمع من خلال القضاء على البؤر القبلية والطائفية المسلحة التي كانت منتشرةً في أغلب البلدان العربية. وفي كثير من الأقطار، كان إنشاء الجيش سابقاً على ظهور الدولة نفسها، ولم تكن حالة الجزائر في هذا الباب استثناءً أو نشازاً.

- وضع هياكل مؤسسية عمومية فاعلة، تتركز أدوارها في الجوانب الإدارية المتعلقة بضبط المجال الإقليمي والسكاني وفق نظم تدبيرية مركزية هي المقوّم المحوري لمقولة الهوية الوطنية الجامعة.

- وضع نظم للمشاركة السياسية تختلف بحسب المقاربات الدستورية وطبيعة أنظمة الحكم، بيد أنها تتلخص في نموذجين رئيسيين: نموذج المجالس الاستشارية الممثلة للقوى الأهلية والمدنية الحديثة كما هو المسلك الغالب على الملكيات الوراثية، ونموذج المركزية الحزبية (الحزب الواحد أو الحزب المهيمن) الذي هو الاتجاه السائد في الجمهوريات العربية.

- رعاية وتسيير العملية التنموية من خلال خلق قاعدة اقتصادية حديثة تتجسد في نظام قسمة العمل وحركية الإنتاج والسوق الحرة، بما يضمن الاستفادة من الموارد المحلية وضبط المبادلات مع السوق الخارجية. لم يكن نجاح الدولة الوطنية العربية في هذه المجالات الأربعة كاملا ولا نموذجياً، بل إن أداء الكثير من البلدان كان ضعيفاً وهشاً، بما يفسر عجزها عن امتصاص صدمة التحول الكبرى التي مرّت بها المجتمعات في العقدين الأخيرين.

إلا أن الدولة الوطنية ظلّت رغم ذلك كله مكسباً يستحق الحفاظ عليه، مهما كانت النقائص والثغرات. في البلدان التي حكمتها أنظمة قمعية استبدادية، بدأنا نسمع في الأعوام الماضية أصوات الحنين إلى عهد الدولة القوية الضامنة للسلم الأهلي والحد الأدنى من المنافع العمومية.

في إحدى هذه البلدان التي مرت قبل عشر سنوات بتجربة التغيير العاصف، قالت لي إحدى الشخصيات القيادية من المعارضة التي ناضلت طويلا في السجون والمنافي ضد النظام المخلوع: «لقد أدركت في نهاية المطاف أن تكلفة التغيير أخطر وأصعب من تكلفة التكيف والإصلاح الجزئي، ذلك أن دولة متسلطة فاعلة أحسن في نهاية المطاف من غياب الدولة».

فما أثبتته تجربة التغيير العنيف والسريع في العالم العربي هو أن البديل عن الأنظمة التسلطية ليس بالضرورة الديمقراطيات الحرة المستقرة، وإنما في غالب الأحيان الانتقال من الدولة الوطنية القمعية إلى تحكم المجموعات المستبدة التي تلغي كل مكاسب الاندماج الاجتماعي والأمن الجماعي بتفتيت هياكل السلطة المركزية سياسياً وإدارياً وأمنياً.

فبدلا من ثالوث الإدارة المركزية والجيش الوطني والحزب السياسي، أصبحت الحياة السياسية في البلدان التي انهارت فيها الدولة متمحورةً حول الأحزاب المليشياتية المدعومة من الخارج، وهي العقبة الكؤود التي تحول دون استعادة الاستقرار السياسي وتجديد هياكل السلطة المركزية.

وعلى عكس تجربة الحركات الوطنية المسلحة في الحقبة الاستعمارية، ليس للمليشيات الحزبية مشروع وطني ولا تدافع عن بناء سياسي جامع، ومن هنا خطورة تحكّمها في المجتمعات التي تتحلل فيها هياكل الدولة كما هو شأن الحالة الحوثية في اليمن. من المؤكد أن الاعتداءات الأخيرة على أبوظبي لن تؤثر على صورة الإمارات كواحة للأمن والاستقرار والرفاهية، بيد أنها تبين بوضوح ضرورة وأهمية مساعدة المجتمع اليمني على التحرر من قبضة المليشيا الحوثية من أجل تثبيت دعائم الدولة واستعادة الوحدة الوطنية الضائعة.

إن الرهان المطروح هنا هو نزع عسكرة الحياة السياسية الذي هو شرط الوفاق الوطني ودفع الحوار السياسي المعطَّل خارج مظلة الإكراه والعنف؛ فلا معنى لحوار سياسي تتحكم فيها قوة مسلحة، ولا سبيل لإعادة بناء الدولة إلا على أساس المساواة والتكافؤ بين قوى سياسية وطنية يجمعها مشروع مجتمعي واحد لدولة مركزية مندمجة ومستقرة.

*أكاديمي موريتاني